مفهوم الوسطية:

كما هو معلوم, أن لغة العرب هي أغنى اللغات وأثراها وأعمقها, يعلمها القاسي والداني, ويعرفها من له أدنى معرفة بذوقها, وشهد بها العلماء الأقدمون والمتأخرون, حتى قال الإمام الشافعي: "لسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا, وأكثرها ألفاظًا...ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غبر نبيّ".

وقبل أن نتحدّث عن الوسطية ومدى آفاقها وأبعادها في الحياة بشيئ من التوسّع, لا بد من ذكر معناها اللغوي والاصطلاحي مستشهدًا ببعض النصوص القرآنية والسنة النبوية الشريفة وأقوال بعض الأئمة اللغويين والمفسرين فيه, كي نتمكن من الوصول إلى المعنى المنضبط للوسطية التي نعنيها في هذا البحث.

    فكما أن كثيرًا من الكلمة الواحدة في لغة العرب تأتي على معنيين, أو ثلاث أو أكثر كما أشرنا, فكلمة الوسطية أيضا تأتي في اللغة العربية على أكثر من معنى, كل على حسب وقوعها في الجملة. سنذكر بعض هذه المعاني الأقرب إلى موضوع حديثنا في هذا البحث تقريبا للمراد, ابتداء بالمعنى اللغوي ثم الاصطلاحي جريًا على عادة العلماء والباحثين في مثل هذا المقام, فنقول:

الوسطية لغة واصطلاحا:

وسط: الواو والسين والطاء: بناء صحيح يدلّ على العدل والنصف. وأعدل الشيئ: أوسطه ووسطه, قال الله تعالى: (أمةً وسطًا). ويقولون: ضربت وسط رأسه بفتح السين, ووسْط القوم بسكونها. وهو أوسطهم حسبًا, إذا كان في واسطة قومه وأرفعهم محلاًّ. والوَسُوط: بيت من بيوت الشَعَر أكبر من المظلة. ويقال الوَسُوط من النوق كالصَّفوف تملأ الإناء.

وقال أبو إسحاق في قوله تعالى: (أمة وسطاً), قولان: قال بعضهم: وسطًا: عدلاً, وقال بعضهم: خيارًا, واللفظان مختلفان, والمعنى واحد, لأن العدل خير: والخير عدل. وقال الليث: الوَسْط –مخفّفًا- يكون موضعًا للشيئ, كقولك: زيد وسْط الدار. وإذا نصبتَ السين صار اسمًا لما بين طرفي ملّ شيئ. وعن الفرّاء: أوْسَطْتُ القوم ووَسَطْتُهم, وتوسَّطْتُهم, بمعنى واحد: إذا دخلتَ وَسْطهم. قال الله تعالى: (فوسطن به جمعًا), وقال الليث: يقال وَسَط فلان جماعةً من الناس وهو يَسِطُهم: إذا صار وسْطَهم.

و"التوسيط" أن يُجعل الشيئ في الوَسَط. وقرأ بعضهم: (فوسَّطْن به جمعًا) بالتشديد. و"التَّوسيط" أيضا قطع الشيئ نصفين. والتوسّط بين الناس من "الوِساطة". والوَسَط من كلّ شيئ أعدله, ومنه قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا) أي عدلاً. وشيئ "وَسَط" أيضا بين الجيّد والرديء. و"واسطة" القلادة الجوهر الذي في وسطها وهو أجودها.

وبناء على هذه الأقوال فإن الوسطية تأتي على معاني عدة, وهي: العدل، والجزء الذي بين الطرفين بين شيئين، والخيار، والأجود، والأفضل، وما بين الجيد والرديء، والمعتدل، وبمعنى الحسب والشرف. ونجد دين الإسلام الحنيف بمعالمه العظيمة وشرائعه الجليلة تحققت فيه هذه المعاني الفاضلة الحسنة، كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه.

الوسطية في الشرع والاصطلاح:

للوصول إلى المعنى الإصطلاحي لكلمة الوسطية ومدى آفاقها في دين الإسلام, حريّ بنا أن نذكر بعض الشواهد من القرآن الكريم والسنة النبوية. فقد وردت الوسطية ومشتقاتها في القرآن الكريم في أكثر من آية, وفي السنة النبوية في أكثر من حديث على المعاني التالية:

  • العدل والتوسط بين الإفراط والتفريط والخيرية، ومن ذلك قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}. فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الوسط في هذه الآية فقال: والوسط العدل. وبه قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم. ويرى الطبري أن الوسط في هذه الآية هو الجزء الذي بين الطرفين, أي بين إفراط وتفريط. ومال ابن كثير إلى أن المراد بالوسط في هذه الآية: الخيار الأجود. وجمع كليهما النيسابوري, فقال عند تفسيره لهذه الآية: أي عدلاً أو خيارًا.

فهذه المعاني الثلاثة لكلمة الوسطية يعاضد بعضها بعضًا, ولم يكن الاختلاف على التضاد وإنما على التنوّع, فكل عدل خير كما أن كلّ خير عدل, وكلّ ما يتوسط بين الإفراط والتفريط عدل وخير, وإلا لما تجرّأ بعض الأئمة على ما فسر به النبي –صلى الله عليه وسلم-. ومثل هذا في القرآن الكريم كثير كما ذكرنا من قبل.

  • ويأتي معنى الوسطية على اعتبار الشيء بين الجيد والرديء، ومنه قوله تعالى: (من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم). قال ابن عباس –رضي الله عنهما- في رواية عنه: «كَانَ الرَّجُلُ يَقُوتُ أَهْلَهُ قُوتًا دُونًا، وَبَعْضُهُمْ قُوتًا فِيهِ سَعَةٌ، فَقَالَ اللَّهُ: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}. الْخُبْزِ وَالزَّيْتِ». وفي رواية عنه أيضًا فسره بالعسر واليسر. وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-:
    الخبز واللحم، والخبز والسمن، والخبز واللبن، والخبز والزيت، والخبز والخل.
  • كما تأتي الوسطية بمعنى: ما بين طرفي الشيء وحافتيه. ومن ذلك قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}، والصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وسميت الوسطى؛ لأن قبلها صلاتين، على اختلاف في تحديد أي الصلوات هي. ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وَسِّطُوا الْإِمَامَ وَسُدُّوا الْخَلَلَ».
  • وتأتي الوسطية في السنة كذلك بمعنى الأوسط والأعلى كما وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- الفردوس بأنه «أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ». يقول ابن حجر:
    المراد بالأوسط هنا الأعدل والأفضل كقوله تَعَالَى ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة وَسَطًا) فعلى هذا فعطف الأعلى عليه للتّأكيد.

مما استشهدنا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في المعنى اللغوي للوسطية كلها تدلّل على اعتناء الشريعة بالمنهج الوسط والاعتدال في الأمور, وحتى في العبادات التي أوجبنا الله تعالى إيّاها بإقامتها, ممّا يدلنا على أهمّيتها وقدرها العالي في حياتنا دنيويًّا وأخرويًّا. وقد طبقها الصحابة –رضي الله عنهم- عمليًّا في حياتهم. كما أنها تدلّل في الجملة على أن الوسطية تعني معنى مشترك وهو العدل وعدم الميل إلى الإفراط والتفريط في الأمور وغيرها من المعاني الفاضلة السابق ذكرها وأن تحققت في الدين الإسلامي وحده.

تحقيق معنى الوسطية:

مفهوم الوسطيَّة وحقيقتها ضلَّ فيها كثيرون، وبيان ذلك كما يلي:

1- هناك من فهم أن الوسطيَّة تعني التَّنازل والتَّساهل، فإذا رأوا مسلمًا قد التزم الصّراط المستقيم، وسار على هدي النبوَّة، قالوا له: لماذا تُشدِّد على نفسك وعلى الآخرين ودين الله وسط؟ ولذلك نجد في واقعنا المعاصر أن أكثر الذين يُرمَون بالتَّطرف والغلوّ وأخيرًا بالأصوليَّة (1) هم من الذين التزموا بالمنهج على وجهه الصَّحيح.

ومن أسباب ذلك الجهل بحقيقة الوسطيَّة.

2- وفي المقابل نجد فئة من المتحمِّسين المندفعين، يصفون أصحاب المنهج الحقّ، الذين لم يوافقوا هؤلاء على أفكارهم، ولم يسايروهم في حماسهم واندفاعهم يصفونهم بالتَّساهل والتَّهاون، وعدم الغيرة، بل وأحيانًا بالتَّنازل والممالأة.

ومنشأ ذلك - أيضًا - جهلهم بحقيقة الوسطيَّة، مع أنهم يدَّعونها، لكنهم لا يفهمونها على الوجه الصحيح.

3- وهناك فئة ثالثة ليست من هؤلاء ولا أولئك، وهم حريصون على الالتزام بالمنهج الصحيح، ولكنَّهم يقعون في أخطاء أثناء ممارستهم للدعوة قولا أو فعلا، وسبب هذا الأمر عدم تصورهم لمنهج الوسطيَّة تصورًا شاملا، وقصرهم هذا المنهج على بعض آحاده.


 

ويلاحظ أن ما فعله بعض الصحابة من الأمور المائلة عن الوسطية نبه عليها النبي الأكرم –صلى الله عليه وسلم- وحذّرهم منها ومن آثارها السلبية لكيلا يقع من بعدهم من المسلمين الذين عاشوا بعيدًا عن زمن نزول الوحي. فإذا كان هذا دأب النبي –صلى الله عليه وسلم- ومن عايشوه من الصحابة من الاهتمام البالغ بهذا المبدأ العظيم والأصل الأصيل, فلا سبيل لنا للنجاة إلا باتباعهم في تطبيق هذا الأساس المتين في حياتنا التي تكثر فيها الفتن ما ظهر منها ما بطن وتموج فيها الأمواج من البلايا الفكرية والخلقية.

العلاقة بين مبدأ الوسطية وبعض القواعد الفقهية:

كما أشرنا في الباب الثاني إلى أهمية الوسطية والاعتدال ومدى أثرها الإيجابي في الحياة, والأثر السلبي إذا مال عنها الإنسان, اهتمّ العلماء به غاية الاعتناء حيث (ابن القيم, الحكمة العلمية والحكمة العملية).

وهنا نودّ أن نذكر بعض القواعد الفقهية التي قعّدها العلماء واستنبطوها من النصوص الشرعية قرآنًا وسنةً ذات علاقة وطيدة وقوية بمبدأ الوسطية التي يدور هذا البحث في محورها, وستظهر تلكم العلاقة ببسط هذه القواعد بشيئ من التفصيل إن شاء الله تعالى. وبعض القواعد المعنية هي: لاضرر ولا ضرار, والضرر يزال, والمشقة تجلب التيسير. وهاك البيان:

وقبل أن نتطرّق إليها, حريّ بنا أن تعرّف أوّلا ما هي القاعدة وما هي الضابط الفقهي وما الفرق بينهما. فالأصوليون كثيرًا ما يتحدّث عنهما عند تعرّضهم لهذه القضيّة, إذ بينهما توافق وفروق لها أثرها في استنباطهم للأحكام الشرعية.

أمّا القاعدة في اللغة فتعني الأساس. وجمعها قواعد, وهي أسس الشيئ وأصوله, حسيّا كان أو معنويّا. فالحسّي كقواعد البيت, والمعنوي كقواعد الدين, أي دعائمه وأعمدته. ومنه قوله تعالى:

" 





 "

فهذه الآية يراد بها الأساس الحسيّ وهو ما بُني عليه بيت الله من أسس.

وفي الاصطلاح, اختلف العلماء في صياغة تعريف لها. فقد عرّفها الجرجاني بأنها: قضية كلية منطبقة على جميع جزئيّاتها. وعرّفها مصطفى الزرقا بقوله: أصول فقهية كلية في نصوص موجزة دستورية تتضمن أحكاما تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها. و منهم من عرّفها: حكم كلّي ينطبق على جميع جزئيّاته أو أكثرها, لتعرف أحكامها منه. وعرّفها علي الندوي: أصل فقهي كليّ يتضمن أحكاما تشريعية عامة من أبواب متعدّدة في القضايا التي تدخل تحت موضوعه.

والفرق بينها وبين الضابط الفقهي هو: أن القاعدة تجمع فروعًا من أبواب شتى, والضابط يجمعها من باب واحد. وعلى هذا فإن ميدان تطبيق القاعدة أوسع مما في الضابط. ويتضح ذلك جليّا بالمثال الآتي:

قاعدة: الضرر يزال.

إن كلّ إنسان بطبيعته يخشى الوقوع في الضرر, وبجبلته البشرية يسعى إلى إزالته بقدر الاستطاعة, اللهمّ إلا من له خلل في عقله ودينه. فالإنسان العاقل المتديّن لا يريد أن يقع الضرر على غيره فضلا عن أن يقع على نفسه, بل الحيوان الذي خلقه الله تعالى من غير عقل, بفراسته وغريزته يجانب الضرر الذي أحاطه وهدّده بما له من الطاقة والقدرة الحيوانية.

ولهذا بطبيعته التي خلقها الله -تعالى- يحتاج الإنسان إلى الاجتماع الذي هو المدنية, يتعايش به فيما بينهم, ويعامل عليه بعضهم بعضًا, ويتعاون له فيما بينهم, ليحقّقوا به مقاصدهم المنشودة من جلب المنافع ودفع المضارة عنهم بكافة الطرق. وفي هذا يقول ابن خلدون: "الاجتماع الإنساني ضروريّ". وفسر مقولة بعض الحكماء "الإنسان مدني بالطبع" بقوله: "أي لا بد من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم, وهو معنى العمران".
ويقول ابن تيمية في معرض حديثه عن الحسبة: "وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر، فالتعاون على جلب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم". فلا يستطيع أحد مهما وصل إلى المنافع الدنيوية ومهما بلغ من المناصب الراقية أن يعيش بمفرده منعزلاً دون الافتقار إلى الغير, بل وحاجة امرء إلى غيره قد تكون أكثر من حاجته إلى نفسه وأكبر, وهذا من مسلّمات العقول وبدهيات الأمور, يقرّ به الأذكياء والجهلاء, ويشهد به الواقع. وبالجملة دفع الضرر بكل السبل المباحة والمتاحة هو مقصد من مقاصد الخلق, به تستقيم حياة الإنسان, وبه تطمئنّ فؤادهم وضمائرهم.

فالله تعالى الخالق العليم بقدرات الإنسان وطاقاتهم يمهّد للإنسان الطريق للوصول إلى ما يقصدونه من الاطمئنان والاستقرار في الحياة, ويبسّط لهم المؤهّلات التي يمكن أن يقوموا بها لتحقيق مقاصدهم الأخروية, ولكن في نفس الوقت يأمرهم بأخذ نصيبهم الدنيوي من الأرزاق, حتى يكونوا على التوازن والتوسط في الأمور. يقول الله جل جلاله:

" 
























 ".

قال ابن كثير: "أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة، في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة. {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أي: مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، ولزورك عليك حقا، فآت كل ذي حق حقه. {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أي: أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ} أي: لا تكنْ همتك بما أنت فيه أن تفسد به الأرض، وتسيء إلى خلق الله { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }".

ومن الأسباب المهمة لتحقيق هذا المطلوب هو الاتصاف بالعدل وعدم الجور ونبذ كلّ صور الفساد و الإفساد في الأرض والتصدي لها, لأن الجور والإفساد في الأرض هما ضرران ابتليت بهما كثير من الأمم السابقة, ويعاني منهما أفراد وجماعات. ولهذا تشدّد الله على المفسدين في الأرض بالوعيد, حيث قال:

"

































 ".

فأكثر الفقهاء يحمّلون هذه الآية في حكم قطاع الطريق, لأنهم مفسدون ويسعون في الأرض فسادًا إما بالقتل أو سلب المال أو التخويف أو غيرها من صور الإفساد. ولا ريب أن السعي إلى الفساد في الأرض والإفساد فيها بواحدة من هذه الصور هو إيقاع الضرر الممنوع شرعا وعقلا. وهذا الوعيد الذي توعّد الله به القائمين بالفساد والساعين إلى الإفساد يدلّنا على تبرّأ الإسلام وشريعته من هذا الفعل الشنيع وتحذيره الشديد من القيام به. والذي ينبغي التنبه إليه أن بعض هذه الصور قد تكون ناتجة عن الغلوّ والجنوح عن الوسطية السمحة, وكثيرًا ما يحدث ذلك في عصرنا الحاضر, كما سيأتي ذكر بعضه في موضعه.

ومن الشواهد من القرآن على دفع الضرر أيضًا, قوله تعالى في أمر المولود:

" 






".

قال قتادة في هذه الآية: نهى الله تعالى عن الضرار وقدم فيه، فنهى الله أن يضار الوالد فينتزع الولد من أمه، إذا كانت راضية بما كان مسترضعا به غيرها, ونهيت الوالدة أن تقذف الولد إلى أبيه ضرارًا.

فهاتان الآيتان, وإن كانت الأولى في قطاع الطريق, والثانية في حقّ المولود على أبويه, فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما قرّرها الأصوليون. وهما تدلاّن بجلاء ووضوح على اعتناء الإسلام بدفع الضرر وسدّه عن الناس أفرادًا وجماعات, وأنهما تعبّران عن مسلك العدل في حق النفس وحق الغير على حدّ سواء. والعدل –كما قال الجرجاني-:
عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي
الإفراط والتفريط.

بيد أن دفع الضرر أمر جبلّي وفطري لدى الإنسان, فإن الشارع الحكيم يؤيّده ويحرص عليه, بل ويجعله سمةً بارزةً من سمات شرائعه وأحكامه, لا تنفكّ عنه ولا تخلو منه في كثير من جوانبها بحال من الأحوال كما أشرنا, إلا أن الشارع ضبّط له ضوابط, وقيّد له قيودًا, بها تستقيم الأمور وتستوي المفاهيم. وذلك لأن الإنسان لا يستطيع معرفة الأمور المصلحية بالعقول المجرّدة, ولا بالآراء الفارغة عن الوحي الشريف. فقد يكون المرء يرى الشيئ ضارًّا والآخر يرى بخلافه, فهذا أمر متفق عليه لدى الإنسان جميعا, لا يختلف فيه اثنان, ولا يتناطخ فيه كبشان. فضبط الشريعة لها من مميزاتها وخصائصها الظاهرة.

فالضرر –على سبيل العموم- إمّا أن يكون قد وقع فيحتاج إلى الإزالة, وإمّا أن يكون لم يقع فيفتقر إلى الدفع وسدّ الطرق الموصلة إليه. والإسلام يهتمّ بهما اهتمامًا بالغًا, ويعتني بهما اعتناءً لا يترك مجالا للريبة, والآيات القرآنية والآحاديث النبوية تدلل عليها.

وعلى هذه النصوص الشرعية من قرآن أو سنة قعّد الأصوليون قاعدة "لاضرر ولاضرار" وقاعدة "الضرر يزال". فالأولى تعبّر عن نهي إيقاع الضرر على الغير قبل وقوعه ومقابلة الضرر بالضرر الآخر. والثانية تعبّر عن وجوب رفع الضرر وترميم آثاره بعد الوقوع.

فقاعدة "لا ضرر ولا ضرار", أصلها نص حديث نبوي شريف, وهو قوله -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه عنه عبادة بن الصامت –رضي الله عنه- أنه قال: قضى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن لا ضرر ولا ضرار وقضى أن ليس لعرق ظالم حق.

فعلماء الأصول يفسّرون هذا الحديث بقولهم: أي لا يجوز إلحاق مفسدة بالغير, ولا يجوز مقابلة الضرر بالضرر. فهي تعبّر عن نهي إيقاع الضرر على الغير أو مقابلة الضرر بالضرر الآخر. وإيقاع الضرر بالغير أو مقابلة الضرر بالضرر الآخر له دوافع عدّة. أهمّها وأخطرها هو ما يكون ناشئًا عن الإفراط والتفريط المائلين عن التوسط والاعتدال, إذ هو أمر معنوي ولم يكن ملموسا, وليس من السهل إزالته والتخلص منه, مع أنّ آثاره السلبية مشهودة ومحسوسة. وكم من الناس يظلم غيره نتجة جهله بحقيقة الوسطية والاعتدال ووصلوا إلى ما وصلوا إليه من سفك الدماء وقتل الأبرياء زاعمين أن ما صنعوه من الدين, ناسين ماقاله الله تعالى في القرآن الكريم وما قاله الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم- من النهي والتحذير من هذه الفعلة الشنيعة, والواقع خير شاهد على ذلك. وكم من الناس يضرّ غيره معتقدًا أنه يقابل الضرر الواقع عليه بالضرر المشابه أو أشدّ, مع أن نبينا الكريم –صلى الله عليه وسلم- نهى عن ذلك, وقدّم لنا حلاًّ آخر وهو الرجوع إلى الحاكم أوالقاضي, وإلاّ لا اضطربت الأمور, واختلّت المصالح المطلوبة.

ورغم أن الأصوليين كثيرًا ما يقتصرون في شرحهم لهذا الحديث على ما في المنطوق من المعاني, إلا أن هذا لا يمنع من أن يكون هنالك معنى آخر على سبيل المفهوم, بحيث يشير هذا الحديث بمفهومه إلى النهي عن الضرر على النفس أيضًا, وكثيرًا ما يحصل الضرر على النفس بسبب الإفراط أو التفريط في الأمور, إما ناتج عن فهم خاطئ بتجاوز الحدّ المطلوب وإما عن جهل بحقيقة المطلوب. يؤكّد هذا ماقاله الله -تعالى- في كتابه الكريم:

"








 ".

يقول الجبائي:
التهلكة الإسراف في الانفاق، فالمراد بالآية النهي عنه بعد الأمر بالانفاق تحرياً للطريق الوسط بين الإفراط والتفريط فيه. والعبرة بعموم اللفظ كما قاله ابن حجر في تعليقه على هذه الآية.

بهذا اتضحت لنا العلاقة بين الوسطية وبين قاعدة "لا ضرر ولا ضرار", بل هما متلازمان يساند أحدهما الآخر. فالوسطية تحصن الإنسان من إيقاع الضرر بالغير و مقابلة الضرر بالضرر الآخر, كما أنها تسدّ باب الإضرار بالنفس سواء كان عن قصد أو عن غير قصد, عن علم أو غير علم, حسُنت كانت النية أو سيئت. ومن جانب آخر يدفع الإنسان إلى الحفاظ على النفس الذي هو مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية.


 

قاعدة: المشقة تجلب التيسير

ممّا هو متفق عليه شرعًا وعقلاً أن الإنسان خلقه الله -تعالى- على حالة الضعف والعجز, بدنيًّا كان أو عقليًا. فمهما بلغ الإنسان من القوة والجشعة في القامة والجسم وفي الذروة من التقدم الفكري والإبداعي من التقنية والتكنولوجيا الحديثة, فهو في النهاية ضعيف أمام بعض المشكلات التي قد يواجهها في حياتهم, وهذا أمر مشاهد ومحسوس, فالإنسان مخلوق تجري طبيعته على الخِلقة التي خلقه الله عليها وهو الضعف والعجز. وقد قرّر الله تعالى هذا الوصف الإنساني البشري في القرآن الكريم, حيث قال:

"




 ".

قال الآلوسي: أي ابتدأكم ضعفاء وجعل الضعف أساس أمركم كقوله تعالى: {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً}. وقال الرازي: أي مبناكم على الضعف. وقال الزمخشري: يعني أنّ أساس أمركم وما عليه جبلتكم وبنيتكم الضعف. ويقول المبرّد: (خلقكم من ضعف) أي ضعفاء.

وعلى هذا الأساس شرع الله تعالى اليسر والتيسير, وخفّف لنا بعض أحكامه وشرائعه جريًا لهذه الجبلّة البشرية حتى لا يتعرّض الإنسان للحرج والمشقة والضيق من حيث لا يشعر, فقال جلّ جلاله:

" 






".

قال الزمخشري: بإحلال نكاح الأمة وغيره من الرخص (وخلق الإنسان ضعيفا) لا يصبر عن الشهوات وعلى مشاق الطاعات. وقال الفاداني: أي يسهل عليكم أحكام الشرائع إحسانا ولطفا وتفضلا وليس فيها تثقيل كما ثقل في أحكام بني إسرائيل.

فهذه الآية وإن كانت واردة في أمر خاص وهو جواز نكاح الإماء عند الضرورة كما روي عن مجاهد ومقاتل وطاووس وابن زيد وغيرهم, إلا أن البقية من العلماء ذهبوا إلى أن هذا عام في جميع التكاليف وأحكام الشريعة.

فهذه القاعدة أساس من أسس الشرع ينبثق عنها أكثر الرخص الشرعية, بل إنها دعامة من دعائم الإسلام التي يقوم عليها بنيان الفقه الإسلامي. ولتوفّر الأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة الدالة عليها وعلى مدلولاتها, صارت أصلاً مقطوعًا بها. قال الشاطبي: "إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع". (ج1, 231). وقال الناظم:

بهذا تبين لنا أن المشقة في الشريعة معدومة ومنفية, وإذا وجدت المشقة طارئة لأمر ما, فهي مرفوعة, إذ الشريعة لم تكن محمولة على الإنسان لتكون ذريعة إلى إرهاق الجسم وإضعاف الجسد بحال من الأحوال. والآيات القرآنية الشاهدة عليها كثيرة. منها قوله تعالى:

" 






 ".

"





 ".

"




 ".

" 





 ".

"





 ".

وهذه القاعدة أيضا فيها تفسير للأحكام التي روعي فيها التيسير والمرونة والسماحة, وأن الشريعة لم تكلّف الناس بما لا يطيقون, أو بما يوقعهم في الضيق والعنت, وبما لا يتفق مع غرائزهم وطبائعم البشرية, وأن المراعاة والتيسير والتخفيف مرادة ومطلوبة من الشارع الحكيم. وهذا المعلم للشريعة الإسلامية ليس ببعيد عنها, إذ الله -تعالى- قرّرها لتحافظ على ضروريات الإنسان الخمس وهي الدين والنفس والعقل والعرض والمال.

فكلّ إنسان عاقل يعيشون للحفاظ على هذه الضروريات, بغض النظر عن كونه مسلمًا أو غير مسلم, اللهمّ إلا من لا دين له, فلا يحتاج إلى حفظ عقيدته ودينه من الخلل والدخائل. فهذه القاعدة تجعل المسلم ثابتًا على دينه وعقيدته, راسخًا في القيام بالواجيات وترك المنهيات, بها يشعر أنه يحتاج إلى الشريعة وتعاليمها العظمى, وبها يسلك في حياته الدنيوية من غير أن يجنح إلى جانب من الإفراط أو التفريط في الأمور.

وإذا ما تُرك الإنسان أحياء من غير ضوابط ولا روابط شرعية تقيّده, لآل الأمر إلى ما آل إليه كثير من الأمم السابقة والحاضرة الغرقى في المتاهات الزائلة, ولفسدت الأمور, واختلت المصالح المرجوة. إذ كلّ يفعل ما يشاء ويختار بما رآه حسنا ويحسبون أنهم يحسنون صنعا, والشواهد الواقعية ليست ببعيدة عنّا. فالدين والشريعة هي التي تضمن للإنسان والإنسانية ما يفتقرون إليه من الحفاظ على ضرورياتهم الخمس. يقول الشاطبي: "فلو عُدم الدين عُدم ترتّب الجزاء المرتجى, ولو عُدم المكلّف (أي النفس) لعُدم من يتديّن, ولو عُدم العقل لارتفع التديّن, ولو عُدم النسل لم يكن في العادة بقاء, ولو عُدم المال لم يبق عيش".

وعلى هذا, فمبدأ التوسط والاعتدال في الأمور يعتبر همزة وصل لحصون الأفراد والمجتمع عن المشقة والضيق والوقوع فيهما من حيث لا يشعرون. فكم من الناس يقعون فيما وقع فيه بعض الأمم السابقة من تضييق النفس وتعنيتها من غير ضابط شرعي زاعمين أن ما صنعوه من الدين, مع أن الدين الحنيف السهل تبرّأ منه والحنيفية السمحة لا تقرّ به. قال الشاطبي: "فالأمور الحاجية إنما هي حامية حول الحمى, إذ هي تتردّد على الضروريات, تكملها بحيث ترتفع في القيام بها واكتسابها المشقات, وتميل بهم فيها إلى التوسط والاعتدال في الأمور, حتى تكون جارية على وجه لا يميل إلى إفراط أو تفريط".

وكذا أحاديث رسولنا الكريم –صلى الله عليه وسلم- طافحة جمّة في الحث على التيسير والحضّ عليه إمّا على سبيل التصريح أو التلميح. فالتصريح مثل ما قاله لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري –رضي الله عنهما- حين بعثهما أميرين لليمن: بشّرا ولا تنفّرا, ويسّرا ولا تعسّرا.

وقد سئل –عليه الصلاة والسلام- عن أحب الأديان إلى الله تعالى فقال: الحنيفية السمحة. قال المناوي: "والملة السمحة هي الملة التي لا حرج فيها ولا تضييق على الناس وهي ملة الإسلام". فالسماحة والسهولة من أوصاف الإسلام الجوهرية اللاصقة بها, هو وسط بين التشدد والتساهل, وبين الغلو والجفاء. فتكاليفه تلائم الفطرة الإنسانية وتنسجمها في شتى نواحي تشريعاته. فإذا مال الإنسان عن التوسط والإعتدال فهو يخالف هذه الصفة ويجانبها, فهو محاسب على نفسه لا على الإسلام وشريعته.

وسبق أن نقلنا قول الشاطبي في هذا حيث قرّر أن الوسط والاعتدال في التكاليف هو مجرى الشريعة, المندرج تحت كسب العبد وطاقته البشرية, من غير أن يكون هنالك مشقة تشقّ العبد وتعنته في ممارسة الحياة الدنيوية, ومن غير أن يكون فيه انحلال في التنفيذ والعمل.

فهذه القاعدة الجليلة وما ينبثق عنها من التطبيقات هي نتيجة منطقية من كون الشريعة قائمة على أساس رفع الحرج والتيسير. وهو أحد أسس التشريع الإسلامي الذي تميّز به عن غيره من الشرائع الأرضية والقوانين الوضعية, وهي جلية في كلّ أحكامها وتطبيقاتها العملية. ومما ينبغي التنبيه عليه -كما قال العلماء-: أن رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع, وأما السلاّبة والسرّاق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج, وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين. ففقه هذا اليسر والتعامل مع أحكام الإسلام ومع الآخرين وفق هذا الفقه هو مقتضى كون هذا الدين رحمة ونعمة وشريعة واسعة كاملة.

وعلى هذا علّل الشاطبي رفع الحرج بعلتين اثنتين هما:

  • الخوف من الانقطاع في الطريق, وبغض العبادة, وكراهة التكليف, وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله.
  • خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلّقة بالعبد المختلفة الأنواع, مثل قيامه على أهله وولده, إلى تكاليف أخر تأتي في الطريق, فربما كان التوغل في بعض الأعمال شاغلا عنها, وقاطعا بالمكلّف دونها, وربما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء, فانقطع عنهما.

ومن هذا المنطلق أيضا قعّد الأصوليون قاعدة "لا يجوز ارتكاب ما يشقّ على النفس". ومما ذكروه من فروع هذه القاعدة: منع قيام طول الليل, والوصال في الصوم, مستشهدين بما صحّ عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في المنع عنهما والحثّ على العمل بخلافهما.

ومعلوم بطبيعة الإنسان وجبلّته أنهما يؤدّيان إلى الحرج ومفضيان إلى المشقة والضيق, بل قد يجرّ بهما إلى ضعف الأبدان والأجسام أو إلى هلاكها, ونبيّنا الكريم –صلى الله عليه وسلم- يقول: أعط كلّ ذي حقّ حقّه. فهذان الصنيعان مائلان عن التوسط والاعتدال, بل هما إفراط بعينه, ممنوع شرعا وعقلا, مجانب للتديّن الصحيح الذي سلكه خير البشر –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام.

وكذا ردّ النبي –عليه الصلاة والسلام- التبتّل على عثمان بن مظعون, حتى قال الصحابة: لو أذن له لا اختصينا. فهو إشارة إلى أن التبتّل نوع من التفريط المائل عن الوسطية لا خير فيه, إذ هو معارض للفطرة التي فطر الله عليها الناس بتشريع الزواج, ولولا ذلك لما ردّ النبيّ –صلى الله عليه وسلم- ابن مظعون في صنيعه, وهو الصادق المصدوق في كلامه –عليه الصلام والسلام-, وفي ذلك تعليم للأمّة الإسلامية عن مبدأ الوسطية. اللهمّ إلا من له ظروف خاصة تمنعه من الزواج, لا لأجل الكره به كما فعل القساسيس والرهبان والأحبار.

وكذا قعدوا قاعدة "المشقة تجلب التيسير", وقاعدة "الضرورات تبيح المحظورات", وغيرها من القواعد المسطورة والموضَّحة في كتب الأصول.

وعلى هذا كلّه تبينت لنا الصلة الوطيدة والقوية بين وسطية الإسلام وبين مقاصد الشريعة العامة والخاصة, فلا يتم إسلام أحد بمعناه الحقيقي إلا بالتوسط والاعتدال, ولا يكمُل إسلام امرء على الوجه الذي أراده الله -تعالى- إلا بالابتعاد عن الافراط والتفريط في الأمور. فكلّما توسط المرء في أمور دينه فهو إلى مقاصد الشريعة أقرب, وكلّ ما ابتعد عنه فهو عن الشريعة ومقاصدها أبعد.


 

سمات بارزة في وسطية الإسلام

للإسلام عقيدة وقيم وأخلاق، لا تتغير بتغير الأزمان، ولا تتبدل بتبدل الأحوال، ثبات في الأصول وسمو في الأهداف، وهذا المنهج الرشيد يستجيب لدواعي التطور وحاجات الأمة، فقد وضع الإسلام مبادئ كلية وأصولاً عامة تُنزل عليها الفروع والوسائل فكلما جد أمر كان للإسلام فيه أمر أو نهي ، تراعى فيه القواعد المقررة عند الفقهاء ، ثبات ومرونة مع كل تقدم وتطور .

ومنهاج الدعوة إلى وسط لا إكراه فيه ولا تشديد، ولا تهاون ولا تفريط دعوة تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة، مع لين في القول وتدرج، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (سورة النحل من الآية:125) .

وقد مدح الله تعالى المؤمنين على التوسط في الإنفاق في كتابه الكريم بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} ( سورة الفرقان ، الآية:67) ، وقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (سورة الإسراء ، الآية:29) ، أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة ، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم ، فلا يكفونهم ، بل هم عدل خيار ، وخير الأمور أوسطها. هذه سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات؛ ويتجه إليها في التربية والتشريع ، يقيم بناءه كله على التوازن والاعتدال.

والمسلم - مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة- ليس حراً في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء كما هو الحال في النظام الرأسمالي ، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان . إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير ، فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع ، والتقتير حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية . والإسراف والتقتير يحدثان اختلالاً في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي ، وحبس الأموال يحدث أزمات ومثله إطلاقها بغير حساب . ذلك فوق فساد ، القلوب والأخلاق .

والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد ، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان: { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } .

والوسط في الطعام والشراب فالمبالغة في الإكثار تسبب كثيراً من الأمراض والمبالغة في الإقلال تلحق بصاحبها الضعف والهزال قال تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } ( سورة الأعراف من الآية:31) ، فالإسراف يكون بتجاوز الحد .

ولهذا فإن الواجب تعميق مفهوم الوسطية بالتوعية والإرشاد والقدوة، ومقارعة الحجة بالحكمة والموعظة الحسنة، ينهض بذلك العلماء وأهل الهدى.

ولا ينبغي أن يتبادر إلى الذهن على أي نحو من الأنحاء أن الوسطية تعني مستوى من مستويات التوفيق بين قواعد ومبادئ وقيم ومثل نزولاً على مقتضى من المقتضيات، أو أنها ضرب من (التقريب) بين ما تَبَايَنَ واختلف من التشريعات والأحكام. فهذا الفهم للوسطية يجافي حقيقتها ويتعارض مع خصوصيتها.

وجملة القول أن الوسطية هي تحقيق لمبدأ التوازن الذي تقوم عليه سنة اللَّه في خلقه. يقول تعالى:{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}، أي بمقدار وبميزان، ووفق نظام رباني ومشيئة إلاهية، ولحكمة أرادها اللَّه تعالى. ويقول اللَّه تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} أي وفق تقدير مسبق وثوابت وسَنَن لا تبديل لها. وهذا التوازن الذي يعني في الوقت نفسه الاعتدال، والتكافؤ بين العناصر والمقومات والمكونات جميعاً والتكامل فيما بينها، هو القاعدة الثابتة للوسطية، وهو الخاصية الجوهرية التي تتميّز بها، فإذا انتفى هذا التوازن، فقدت الوسطية عنصرها الأساس، لأنها في هذه الحالة تميل مع الأهواء، فتصبح تفريطاً أو إفراطاً، وهما بابان من أبواب التطرف في أحد الاتجاهين الإيجابي أو السلبي، وإن كان لا خير في التطرف من حيث هو، وإن حسنت النوايا، لأنه شرٌّ كلّه وعاقبته وخيمة في جميع الأحوال.

مما يتفق عليه أن كل شريعة أرضية وقانون وضعي قرره الأفراد أو الجماعات له سماته البارزة وأوصافه الظاهرة تتجلى في القواعد والدعائم التي أسسوا عليها ذاك القانون, فما بالنا بالنظام الذي قرره الله تعالى الخالق الخبير بمصالح الإنسان, فلا مقارنة بينهما لا من قريب ولا من بعيد.

فالسمات البارزة في وسطية الإسلام واضحة أبلج, يقر بها المنصفون, تتمثل في كل نواحي شرائعه الجليلة عقيدةً وعبادةً ومعاملةً وأخلاقًا. ففي العقيدة هو وسطية بين من يعبد النار وتقديسها كما فعل الغنوصية, والصلاة إلى الشمس عند المجوس, والقائلين بقدم العالم, وإنكار وجود الخالق والبعث والجنة والنار كما ذهب إليه الدهرية والفلاسفة اليونان والملحدون والباطنية, واليهود الذين قالوا بأن عزيرًا ابن الله, والنصارى الذين يعظمون عيسى –عليه السلام- ويجعلونه في مقام الألوهية أو في مرتبة البنوة للإله –تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا-.

تميّز الإسلام بالوسطية مع ذكر بعض نماذجها, وفيه:

وسطية الإسلام بين الملل والنحل:

شرع الله تعالى الإسلام خاتما "للأديان السماوية" ومكمّلا لها, واقتضت حكمته تعالى أن يجعله دينا سهلًا ميسورًا في عقيدته وعبادات ومعاملاته وسلوكه. وإذا قرأنا آي القرآن الكريم وتتبعنا سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته, لوجدناها مؤكّدة لها, وذلك تظهر في الأمور التالية.

إن طبيعة النظام الكامل المكمّل لا تحتاج إلى زيادة ولا تفتقر إلى أي إضافة من غير مشرّعه, فضلاً عن أن يحتاج إلى التغيير والتبديل, إذ الزيادة والإضافة والتغيير من الغير دليل على نقصانه, فما بالنا بدين الإسلام الذي شرعه الله -تعالى- الخالق العليم بدقائق الأمور عالم الغيب والشهادة؟ لهذا تكفّل الله -تعالى- بحفظ القرآن الكريم والسنة النبوية إلى أن يرث الأرض ومن عليها. يقول جل وعلا:

"


".

يقول ابن عباس: "وهو الإسلام، أخبر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدًا، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدًا".

ومعلوم أن الإسلام يشمل القرآن والسنة النبوية. فلا إسلام على وجهه الصحيح بدونهما معًا, إذ لا يتصور تمام الإسلام وشريعته بالقرآن فحسب دون السنة, فهما بمنزلة جناحين للطير لا يستغني أحدهما عن الآخر. وعليه تكفّل الله بحفظ الإسلام يستلزم تكفّله بحفظ القرآن, ويستلزم تكفّله بحفظ السنة أيضًا لكونه مبيّنًا ومفسّرًا ومؤكّدًا لما في القرآن كما هو معلوم. ولهذا قال تعالى:

"





".

ونعني بالملل والأديان هنا هي الأديان المحرّفة, والملل المغيّرة من قِبل معتنقيها, وهم الذين بدّلوا وحرّفوا ما في التوراة والإنجيل المنزلين من عند الله -تعالى-, أو بتعبير آخر الأديان الأرضية, وإلاّ فإن الدين المنزل من عند الله واحد وهو الإسلام, كما حققه المحققون من العلماء قديما وحديثا. وهذا ما يُفهم من الآيات وكذا بعض أحاديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- التي سيأتي ذكر بعض منها.

فالأديان الأرضية التي أطلقت عليها باسم النصارى واليهود وغيرها ليست دينًا سماويًا, فأتباعهم سماهم القرآن الكريم بهذه المسمّيات باعتبار ما صنعوه في ذاك الوقت أو باعتبار ماقلوا تجاه أنبيائهم. فالنصارى أطلق عليهم هذا الإسم لتناصرهم فيما بينهم, وقيل لأن أتباع المسيح -عليه السلام- كانوا يقولون له: نحن أنصار الله, وقيل لأنهم نزلوا أرضًا يقال ناصرة. فأطلقت عليهم هذه التسمية. وكذا اليهودية, فقد أطلق عليهم هذا الإسم لأن أتباع نبي الله موسى –عليه السلام- كانوا يقولون له: إنا هدنا إليك. ومعناه تبنا ورجعنا وأنبنا إليك, كما قاله علي بن أبي طالب و ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم. وهذا من باب إطلاق الإسم على الفعل, وليس اسمًا يدلّ على أنه اسم دين أو ملّة. وإلا فالقرآن الكريم يقرّر في أكثر من موضع أن الدين الوحيد من الله -تعالى- هو الإسلام, قال تعالى:

"




"

وقال تعالى:

"











".

وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "والّذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمّة يهوديّ ولا نصراني، ومات ولم يؤمن بالّذي أرسلت به، إلا كان من أهل النّار".

قال النووي في شرحه:
"أي ممّن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة فكلّهم يجب عليه الدّخول في طاعته. وإنّما ذكر اليهوديّ والنّصرانيّ تنبيهًا على من سواهما, وذلك لأنّ اليهود والنّصارى لهم كتاب فإذا كان هذا شأنهم مع أنّ لهم كتابًا فغيرهم ممّن لا كتاب له أولى". مع التنبيه أن من لم تبلغه الدعوة الإسلامية فهو معذور, ولا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح.

وعلى هذا قال قتادة في قوله تعالى:

"


".

"ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام، إن دين الله الإسلام، واليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله". وبه قال مجاهد كما ذكره الطبري. بالإضافة إلى أن النصارى لا يدّعون أن الأناجيل الموجودة عندهم منزلة من عند الله -تعالى- على المسيح, ولا أن المسيح أتاهم بها, بل كلهم من أولهم إلى آخرهم لا يختلفون في أنها أربعة تواريخ ألفها أربعة رجال في أزمان مختلفة.

فبعض المصطلحات الشائعة في أيامنا هذه, مثل "وحدة الأديان" و "الأديان الإبراهيمية" لإطلاق اسم الإسلام واليهودية والنصراية, هي مصطلح حادث لم يُسبق, نتيجة اغترار بعض المسلمين المغترّين بأفكار خارجية, فتأثروا بهذه الشعارات البرّاقة ظاهرها رحمة وباطنها عذاب. وهذا التأثر في الحقيقة جراء التفكير المنفلت المائل عن التوسط والاعتدال. فكثيرًا ما يروّجون الشعار "وحدة الأديان", على أن "الأديان" واحدة تتجه إلى هدف واحد وهو السلامة للإنسان, ويشنعون على من يدعون إلى القول بأحقية الإسلام وحده, بزعم أنه لا يلائم العصر الحديث, وأن العصر يحتاج إلى التقارب والتفاهم بهذه الطريقة, وأنه عنصري, وما إلى ذلك من الدعوات التي لا أساس لها من الصحة.

وهذا في الحقيقة تلبيس الحق بالباطل, وهو مرفوض شرعًا وعقلاً, أما الشرع فقد ذكرنا بعض الآيات القرآنية والآحاديث النبوية الشريفة مما لا يحتاج إلى مزيد إيضاح. وأما العقل, فكيف يقال أن الأديان كلها سواء, وأن كلا منها يوصل الإنسان إلى الصراط المستقيم, وهو صراط الله الذي لا اعوجاج فيه؟. ومعلوم أن الحق واحد لا يتعدّد؟. وبما أن الإسلام وتلك "الأديان" تختلف في الأصول و كثير من الفروع, فهل يعقل أن يقال أن كلها واحد؟. اللهم إلا من على دين اليهودية أو النصرانية غير المحرّفة المتبعة لنبي الله إبراهيم –عليه السلام-.

وأما الزعم بأن التقارب والتفاهم لا يتمّ إلا به, فهي دعوى مجرّدة عن أي حجة. فسيرة نبينا –صلى الله عليه وسلم- العطرة خير دليل على ضعف هذه الدعوى. فكان –عليه الصلاة والسلام- يتعامل مع اليهود والنصارى في أمور, وهم يعاملونه في المعاملات وغيرها. بل إن درعه –صلى الله عليه وسلم- كانت مرهونة عند يهوديّ إلى أن توفي –عليه الصلاة والسلام- ودفع له أحد صحابته –رضي الله عنه-, وهكذا كانت سيرة الخلفاء من بعده. ولكن هذا التعامل والتفاهم ما كان في مثل ما يدّعيه هؤلاء المغترّون حيث يجوّزون ممارسة عبادة غيره أو إقامة بعض شعائره باسم التقارب والتفاهم المزعوم. فحاشا للرسول –صلى الله عليه وسلم- أن يصنع ذلك في القضايا العقائدية الدينية المحضة, إذ لا سبيل للمجاملة في هذا الباب. فهذه سورة كاملة من السور القصار في القرآن الكريم تدلّل عليه, وهي قوله تعالى:

"


" إلى آخر السورة.

يقول ابن كثير في هذه السورة:
"هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص فيه". وقال عند تفسيره لهذا الآية:
"شمل كل كافر على وجه الأرض، ولكن المواجهين بهذا الخطاب هم كفارُ قريش". ثم ذكر رواية في نزول هذه السورة بكمالها, وهي أن المشركين, من جهلهم دَعَوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون معبوده سنة، فأنزل الله هذه السورة، وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية.

وعلى هذا فإن لفظ "الإسلام" له معنيان، معنى عام: وهو يشمل إسلام كل أمة مقتدية لنبي من أنبياء الله الذي بعث فيهم, ومتّبع لهم في جميع ما جاءوا به، فهم مسلمون حنفاء على ملة إبراهيم بعبادتهم لله وحده واتباعهم لشريعة من بعثه الله فيهم. فأهل التوراة قبل النسخ والتبديل، مسلمون حنفاء على ملة إبراهيم، فهم على "دين الإسلام"، ثم لما بعث الله نبيه عيسى -عليه السلام-, فإن من آمن منهم به، واتبعه فيما جاء به فهو مسلم حنيف على ملة إبراهيم، ومن كذب منهم بعيسى -عليه السلام- فهو كافر لا يوصف بالإسلام؛ ثم لما بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وهو خاتمهم، وشريعته خاتمة الشرائع، ورسالته خاتمة الرسالات، وهي عامة لأهل الأرض وجب على أهل الكتابين وغيرهم اتباع شريعته، وما بعثه الله به لا غير. فمن كفر به ولم يتبع ما جاء به فهو كافر لا يوصف بالإسلام ولا أنه حنيف، ولا أنه على ملة إبراهيم، ولا ينفعه ما يتمسك به من يهودية، أو نصرانية، ولا يقبله الله منه. فبقي اسم "الإسلام" عند الإطلاق منذ بعثة محمد -صلى الله عليه وسلم- حتى يرث الله الأرض ومن عليها، مختصا بمن يتبعه لا غير. وهذا هو معناه الخاص الذي لا يجوز إطلاقه على دين سواه. ويؤكد هذا ما جاء عن السدي أنه قال في قوله تعالى:

"






















".

"نزلت في أصحاب سلمان الفارسي، بينما هو يحدث النبي -صلى الله عليه وسلم- إذْ ذكر أصحابه، فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبيًا، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا سلمان، هم من أهل النار". فاشتد ذلك على سلمان، فأنزل الله هذه الآية، فكان إيمان اليهود: أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى -عليه السلام-؛ حتى جاء عيسى. فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى، فلم يدعها ولم يتبع عيسى، كان هالكًا. وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنًا مقبولا منه حتى جاء محمد -صلى الله عليه وسلم-، فمن لم يتبعْ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- منهم ويَدَعْ ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل -كان هالكا". ولهذا لم يشكّ العطّاس حين قال عن المسيحية: هي دين ثقافي من صنع الإنسان تطور ونما مع التاريخ. ووصف اليهودية بأنها ديانة قومية, لأنها محصورة في مجموعة عرقية صغيرة ومضطهدة تعيش في أرض الشتات. فالدين الحق لا بدّ أن يكون عالميّا, والذي يتحقق فيه هذا الوصف هو الإسلام وحده لا غير. قال تعالى:

    "



 ".

فالنصرانية أو المسيحية المعاصرة وغيرها من "الأديان" المدعاة من غير دليل ولا حجة ليست دينا منزلاً من عند الله, والدين الوحيد هو الإسلام وحده كما مضت الأدلة عليه. فإطلاق الديانة السماوية على النصرانية أوالمسيحية وغيرها كما هو شائع في العصر الحديث إطلاق خاطئ فاحش ينبغي التنبه إليه والحذر منه, لأن له آثاره السلبية في التفكير بل وفي العقيدة الإسلامية نفسها. كما أن إطلاق القرآن الكريم عللا معتنقيهم باسم أهل الكتاب هو راجع إلى كون بعض الأجزاء من كتبهم مأخوذة من التوراة والإنجيل الأصليين المنزلين على موسى وعيسى –عليهما السلام-, وإلى الذين لا يؤمنون حقيقة بعقيدة التثليث وتجسد الإله بالمسيح وغيرها من العقائد الباطلة عند المسيحية اليوم, ويؤمنون بالله وحده, وبعيسى –عليه السلام- بأنه نبي مرسل, ويصلون ويعملون الصالحات على النهج الذي ألهمهم الله عليه, ولم تبلغهم -وهم على هذه الحالة- دعوة الإسلام وليسوا على وعي بها حقيقة, فهؤلاء هم الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن الكريم أنهم أقرب الناس مودة للمسلمين.

وآفاق وسطية الإسلام بين الأديان الأخرى المحرفة والمبدلة, تظهر في العقيدة والعبادة والمعاملة وغيرها. ففي العقيدة هو وسط في توحيد الله تعالى وأسمائه وصفاته, وفي الإيمان برسله وكتبه وشرائع دينه من الأمر والنهي والحلال والحرام. فأمر المسلمين بالمعروف ونهاهم عن المنكر, وأحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث. فلم يحرم الإسلام شيئا من الطيبات كما حرم على اليهود, ولم يحل لهم شيئا من الخبائث كما استحلتها النصارى, ولم يضيق عليهم باب الطهارة والنجاسة كما ضيق على اليهود, لم يرفع عنهم طهارة الحدث والخبث كما رفعته النصارى, فلا يوجبون الطهارة من الجنابة ولا الوضوء للصلاة ولا اجتناب النجاسة في الصلاة, بل يعدّ كثير من عبادهم مباشرة النجاسة من أنواع القرب والطاعات, ولهذا تركوا الختان مع أنه شرع إبراهيم الخليل –عليه الصلاة والسلام-.

واليهود إذا حاضت عندهم المرأة لا يواكلونها ولايشاربونها, ولا يقعدون معها في بيت واحد, والنصارى لا يحرمون وطء الحائض. وكان اليهود لا يرون إزالة النجاسة, بل إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه بالمقراض, والنصارى ليس عندهم شيئ نجس يحرم أكله أو تحرم الصلام معه. وكذا المسلمون وسط في الشريعة, فلم يجحدوا شرعه الناسخ لأجل شرعه المنسوخ كما فعليت اليهود, ولا غيروا شيئا من شرعه المحكم ولا ابتدعوا شرعا لم يأذن الله به, كما فعلت النصارى, ولا غلوا في الأنبياء والصالحين كغلوّ النصارى, ولا بخسوهم حقوقهم كفعل اليهود, ولا جعلوا الخالق سبحانه متصفا بخصائص المخلوق ونقائصه ومعايبه- من الفقر والبخل والعجز كما فعل اليهود, ولا المخلوق متصفا بخصائص الخالق سبحانه, التي ليس كمثله فيها شيئ كفعل النصارى, ولم يستكبروا عن عبادته كفعل اليهود, ولا أشركوا بعبادته أحدا كفعل النصارى. كما أن الإسلام وسط بين القائلين بإلهين اثنين والمشركين والكفار الذين يجحدون وجود الإله من الإلحاديين, ومن يؤلهون الشيطان وبعض البشر والنجوم والكواكب وغيرها من مخلوقات الله تعالى. وفي موقف الإسلام من الأنبياء والمرسلين فهو وسط بين اليهود والنصارى. فاليهود يشنعون على بعض الأنبياء ويكفر بعضهم وينقّصونهم ويتهمونهم بما ليسوا فيه, بل وقتلوا بعضا منهم, والنصارى يعظمون بعضهم ويقدّسونهم وألصقوا فيهم صفات الألوهية كما صنعوا في نبي الله عيسى –عليه الصلاة والسلام-. والإسلام وسط بينهما, فلا أحد من أنبياء الله تعالى معرّضا للتشويه ولا للتنقيص فضلا عن إباحة دمائهم, بل وجعل الإيمان بهم وبالكتب التي أنزلت عليهم ركنًا من أركانه لايصح إسلام أحد بدونه, كما جعل أن الكفر بواحد منهم كفر بالجميع.

إضافة إلى أن اليهود لهم كلام خبيث في ذات الله تعالى وفي وصفهم وتنقيصهم إيّاه سبحانه –تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا-, وقد كشف عوارهم في هذا ابن حزم وعنّف عليهم و جلّى بطلان أقوالهم. وكذا في بعض الأنبياء مثل لوط –عليه السلام-, فقد زعم اليهود في توراتهم المحرفة أنه فعل فعلا فاحشا مع ابنتيه.

قال القنوجي: ولهذا كان الإيمان الحقيقي هم الذي يحمل صاحبه على فعل ماينفعه, وترك ما يضره (الدين الخالص, 2: 405.

كما أن شريعة القرآن وسط بين شريعة التوراة والإنجيل. فشريعة التوراة يغلب عليها الشدّة, بينما شريعة الإنجيل يغلب عليها اللين, وشريعة القرآن معتدلة بين هذا وذاك. وسبب ذلك أن بني إسرائيل كانت نفوسهم قد ذلت لقهر فرعون لهم, واستعباد فرعون وقومه لهم, فشرعت الشدّة لتقوّي أنفسهم, ويزول عنهم ذلك الذلّ. ولهذا لما أمروا بالجهاد نكلوا عنه, وقال لهم موسى –عليه السلام- (المائدة 21-24). بينما أصحاب محمد –صلى الله عليه وسلم- يقول له يوم بدر: والله لا نقول لك كما قال قوم موسى (اذهب أنت وربك فقاتلا). (الخاري ومسلم.

    وكذا قوم عيسى –عليه السلام-, فكان سبب بعثته باللين والصفح والعفو عن المسيئ, واحتمال أذاه ليليّن أخلاقهم, ويزيلوا ما كانوا فيه من الجبرية والقسوةز فأفرط قومه في اللين, حتى تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, الجهاد في سبيل الله, والحكم بين الناس بالعدل, وإقامة الحدود, وترهّب بعضهم منفردين. مع أن في ملك النصارى من الجبرية والقسوة والحكم بغير ما أنزل الله, وسفك الدماء بغير حقّ, مما يأمرهم به علماؤهم وعبادهم, ومما لم يأمروهم به, ما شاركوا فيه اليهود.

    فبعث الله محمدًا –صلى الله عليه وسلم- بالشريعة الكاملة العادلة, وجعل أمته عدلا خيارا لا ينحرفون إلى هذا الطرف ولا إلى هذا الطرف, بل يشتدّون على أعداء الله, ويلينون لأولياء الله, ويستعملون العفو الصفح فيما كان لنفوسهم, ويستعملون الانتصار والعقوبة فيما كان حقّا لله. ففي مسلم (ما ضرب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- شيئا قط بيده, ولا امرأة, ولا خادما) وفي الصحيحين أيضا (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت ييدها)..

    وفي الجملة, شريعته -صلى الله عليه وسلم- من اللين والعفو والصفح ومكارم الأخلاق أعظم مما في الإنجيل, وفيها من الشدّة والجهاد وإقامة الحدود على الكفار والمنافقين, أعظم مما في التوراة, وهذا غاية الكمال. (الجواب الصحيح, 3: 253-255. قال بعضهم: بعث موسى بالجلال, وبعث عيسى بالجمال, وبعث محمد بالكمال –عليهم الصلاة والسلام-. (الجواب الصحيح, 3: 256)

الفتح: 29. المائدة: 54. فوصفهم بالرحمة للمؤمنين وال

وسطية الإسلام بين الشرائع والقوانين الأرضية.

فكما أن الإسلام وسط بين الأديان والملل, بطبيعته هو وسط بين الشرائع والقوانين الأرضية التي وضعها الإنسان بطريقة أولى وأحرى. وهنا لا نريد أن نقارن بينه وبين الشرائع والقوانين الأرضية في كلّ جانب من جوانب شرائعه وأحكامه, وإنما نودّ فقط أن نلفت أنظارنا إلى ما نراه أهمها ونحتاج إلى فهمها في العصر الحديث, إذ هو الموضع الذي يشكّك فيه كثيرًا أعداء الإسلام وخصومه, ويوجّه من خلاله الاتهامات الباطلة على شريعته ومن جاء به وهو نبينا الكريم –صلى الله عليه وسلم-, ألا وهو قضية المرأة وحقوقها. فكثيرًا ما يوجه أعداء الإسلام اتهاماتهم من هذه الثغرة, فيتهمون الإسلام بإسقاط حقوق المرأة وغيرها من التهم. نذكر واحدة من القضايا المتعلقة بالمرأة التي يكثر فيه الجدل حولها حديثًا, وهو قضية الميراث وحق المرأة فيه.

لا شكّ أن قوانين الميراث في الأمم القديمة قبل الإسلام موجودة, وكلّ قوم قعّدوا قواعد تبنى عليها أحكام الميراث في مجتمهم, إلا أن لكلّ قوم قوانينهم تختلف عن الآخر لاختلافهم في العقيدة والأزمنة والأمكنة, وأن هذه القوانين الموضوعة من قبلهم لم تكن شاملة ولا كاملة. والفرق الأساسي بينها وبين قوانين الميراث في الإسلام هو المصدر, ذلك لأن المصدر الأصيل عندهم أكثرها من وضع البشر, بينما قوانين الميراث في الإسلام مبنية على ما أثبته الله -تعالى- العليم بمصالح البشر. كما أنها تختلف في تفصيلات من يستحقون على التركة ومن لا يستحق, وفي القدر الذي يستحقه كل مستحق.

فالميراث في عهد مصر القديمة يبنى على مبادئ, وهي أن الحصول على التركة قائم على أساس القرابة, والزوجية, وأن ولد الزنى لا يستحق عليها, وأنه لا فرق بين حق الذكر والأنثى فيها. بينما قانون اليونان القديمة يعتبر الميراث وصية يجوز نقلها إلى أكبر الأولاد, وإذا مات أحد ولم يوص فالتركة تقسّم على الأولاد الذكور فقط على السواء, وإذا لم يكن هناك أولاد الذكور فالتركة للعصبة الأقرب من الميت. كما قرر قانون اليونان أنه يجوز للآباء أن يعطوا بعض أولادهم أكثر من غيره, ولا حقّ للمرأة من الميراث شيئ عندهم. وهكذا في اليهود القديمة, فليس للمرأة حقّ من الميراث ما دام للميت ولد من الذكور, أو أب, أو الأقرباء الذكور مثل الأخ والعمّ, يقصدون بذلك كي لا ينتقل المال إلى غير أهل الميت. وقرروا أن للذكر حق مطلق في المال يتصرف به كيف يشاء, يوهبه أو يوصي به لشخص معيّن, كما يجوز له أن يعطي المال من يشاء ويمنع من يشاء من حق الميراث, وإن كان بينهما قرابة. وهذا مبني على أسس, وهي: أن أسباب الميراث عندهم البنوة, والأبوة والعمومة. أما الزوجية فليست سببا للميراث عندهم, ومع ذلك يجوز للزوج أن يرث أموال زوجته وحده دون أن يقرنه أحد فيه, وإن كان له أولاد أو أقرباء, وبالعكس لا تستحق الزوجة شيئًا من تركة زوجه المتوفى, كما أن ميراث الأب لا يستحقه إلا الأولاد الذكور فقط, والولد الأكبر يستحق النصيب الأكثر من المال وهو مثل حظ الذكرين من إخوته الذكور. وكذا إذا توفي أحد وله أولاد من الذكور والإناث فالتركة مخصوصة للأولاد الذكور فحسب, وللمرأة حق النفقة فقط. والأم لا تستحق الميراث من أولادها سواء من الذكور أو الإناث, وإذا توفيت الأمّ فالمال لأولادها الذكور, والإناث تستحق بتركتها إذا لم يكن معها أو معهنّ ذكور.

وفي القانون الروماني القديم نجد الأسس الذي بنوا عليها قانون ميراثهم هي: أسباب الميراث هو القرابة وولاء العتاقة. أما الزوجية فليس سببًا في الميراث, ولذلك ليس للمرأة حقّ في تركة زوجها عندهم. كما أن قانون الروماني يعطي للأولاد حق التركة مطلقًا, سواء كانوا من الزواج الصحيح, أو من الزنى أو من التبنّي, وهذا مبني على اهتمامهم بسلطة رأس الأسرة وسط المجتمع.

وأما الجاهلية فلهم معرفة بقوانين الميراث توارثوها من أجدادهم, إلا أن هذه القوانين فهموها على غير وجهها, فيتبعون فيها أهوائهم وشهواتهم المبنية على المنكرات. وعلى هذا بنوا قوانين ميراثهم على مبادئ, وهي: أن سبب الميراث هو القرابة, ويقصد بها الأقرباء الذكور القادرين على رفع السلاح للقتال. والتحالف, (وهوالعقد بين شخصين على الدفاع بأن يقول أحدهما للآخر: دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك), والتبنّي. كما أنهم قرّروا بأن الأولاد الكبار فقط هم المستحقون على التركة, وليس للصغار شيئ, إذ الصغار لم يكونوا قادرين على رفع السلاح للقتال, وأما الإناث من الأولاد فليس لها أو لهنّ حق من الميراث شيئ, بل إنهنّ يصبحن تركة كالأموال. والله –تعالى- سطر لنا بعضًا من جنايات الجاهلية ومعاملاتهم الشنيعة نحو المرأة في القرآن الكريم في أكثر من موطن, مثل قوله تعالى:

"







 * 

















".

وبعد هذا كلّه, يمكن أن نقول بأن هذه القوانين الأرضية لم تعط حق المرأة, بل إنها تهين بشريتها وحريّتها المفروضة. بينما الإسلام يعطي حقوقها بكاملها, لكن هذه الحقوق على نطاقها وتناسب جبلتها التي جبلها الله عليها. فلها في الإسلام حق المهر وحق الكسوة وحق الطعام وحق السكنى وحق الميراث, بل ولها حقّ المتعة إذا حصل شيئ بينها وبين زوجها وليس هنالك سبيل آخر للقضاء عليه. فليس هنالك أي شك بأن هذا عين التوسط والاعتدال.

وسطية الإسلام بين التيارات الفكرية المعاصرة

لم يكن القصد من الكلام في هذا لأجل المقارنة بين وسطية الإسلام وشريعته وبين المذاهب الفكرية المعاصرة من كل نواحيها, وإنما نودّ أن نلقي الضوء على المبادئ الرئيسية التي اشتهرت بها تلك المذاهب ثمّ نقارنها بمبدأ الوسطية في الإسلام. ومن ثمّ لا نتعرّض إلى تاريخ نشأة كلّ من هذه المذاهب, ومن أنشأها إلى غير ذلك من الكلام. فالحديث عنها يكون مقصورًا ومحصورًا على هذا الجانب فحسب.

فالرأسمالية لا تعترف بالدين, وفي نفس الوقت لا تنكره, وعلى هذه الفكرة بنى أصحاب هذا المذهب فكرة فصل الدين عن الحياة, وهذه هي عقيدتها وقيادتها الفكرية وقاعدتها. وبناء عليها يعتقد أصحاب هذه الفكرة أن الإنسان هو الذي وضع نظامه في الحياة, وليس له علاقة بالله -تعالى- لا من قريب ولا من بعيد, ومن هذا المنطلق أيضا يجعلون الأصل الأصيل هو الحفاظ على الحريات الأربع للإنسان وهي: حريّة العقيدة, وحرية الرأي, والحرية الشخصية, والحرية الملكية من أعظم مقاصدهم. إلا أن الحرية الملكية التي تنتج نظاما إقتصاديا رأسماليا هي أبرز هذه الأفكار للرأسمالية.

ويبدو أن ما بنوا عليه مذهبهم الفكري يوافق الإسلام وشريعته إلى حدّ ما. إلا أن الفارق الفاصل بينهما في المصدر وفي مجال تطبيق هذه المبادئ على أرض الواقع, إذ الإسلام دين سماوي أنزله الله تعالى لمصالح العباد, له أركانه وكيانه الوثيقة وله ضوابطه الشرعية المضبوطة لايجوز بحال من الأحوال تجاوزها. ويظهر هذا الفرق الجوهري بالآتي:

فحرية العقيدة عند الرأسمالية يراد بها أن يعيش الناس أحرارًا في عقائدهم, يفعل ما يشاء ويختار, ولهم أن يفكروا في ما يحلو ويطيب لهم, والشهوة هي التي توجههم وتقودهم بدون أي عائق ولا دافع من السلطة وغيرها, فهذه الحرية في العقيدة خالية من الروابط والضوابط, فالضابط عندهم هو الشهوة والهوى, فلا يحق لدولة أن تسلب أي حق من حقوقهم العقدية, ولا أن تمنع أي واحد منهم من ممارسة ما يعتقدونه من الأنظار والآراء, وإن كانت هذه الأنظار والآراء باطلة لدى الدولة, ولدى الأفراد والجماعات.

بخلاف الإسلام فإن العقيدة فيه أمر أساسي, لا يجوز لمؤمن إهمالها ولا تجوز المجاملة فيها, بها يحصن الإنسان من الوقوع في الأمور المنهية شرعا, وينّبههم دائمًا على أن الله مراقب له ومهيمن عليه, يعلم خائنة أعينهم وما تخفي صدورهم. ولكن في نفس الوقت صان حرية الاعتقاد للإنسان إلا ما كان منافيا لكرامة الإنسان وكرامة العقل. وعلى هذا كان موقف الإسلام من الوثنية موقف محارب حتى ينهزمها ويقلص عن الجزيرة العربية رموزها, لأنها تعبير عن الجهل وإلغاء للعقل. ورغم أن دين الإسلام جاء للناس جميعا إلا أنه أكد على حرية العقيدة من خلال الآية القرآنية, قال تعالى:

"


".

أي لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام, فإنه بين واضح جلي, دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه. يؤكد هذا ما جاء في بعض أسباب نزول هذه الآية من أن قومًا –أو رجلا منهم- كان لهم أولاد قد هودوهم أو نصروهم، فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله عن ذلك، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام. كما أكدتها بعض الآيات الأخر, مثل قوله تعالى:

"




".

وبالجملة فإن حرية العقيدة متروكة لكل إنسان في شرعة القرآن, لا بمعنى إقرار الكافرين على كفرهم والضالين على ضلالهم, وإنما بمعنى ترك الإكراه أو الإجبار على تغيير معتقد أحد من الناس أو دينه, لأن ذلك لا ينفع شيئًا, وبالعكس قد يكون سببًا لنفورهم وعدوانهم على الإسلام والمسلمين. فالإسلام جاء بنظامه الشامل المتكامل لتحرير الإنسان من العبودية للمادة وإرجاعهم إلى عبادة ربّ المادة وخالقها وهو الله -سبحانه وتعالى-, ولا يتحقّق ذلك إلا باتباع الرسول الذي بعثه الله بالتعاليم الجليلة, وهو دال على وسطية شريعته وأحكامه. إذ الإنسان إذا ما تُرك على ما هم فيه من غير وحي شريف جاءت به الرسل –عليهم الصلاة والسلام-, فكلّ يرى رأيه صوابًا وحسنًا أو مناسبًا للإنسان. فحسم هذا الباب بإرسال الرسل, والإيمان بما جاءوا به من الغيبيات وغيرها هو عين الوسطية والاعتدال في العقيدة. وعلى هذا كان التوحيد جوهر الإسلام, لأنه يتضمن أعظم درجات التكريم, ولأنه مفتاح الحرية وضمان التقدّم.

أما حرية الرأي عند هذا المذهب, فهو ما تجعل لكلّ فرد كلامًا مسموعًا في تقرير الحياة العامة, ووضع خططها وسن قوانينها, وتعيين السلطات القائمة لحمايتها, لأن نظام الحكم فيها يتصل اتصالاً مباشرًا بحياة كلّ فرد من أفرادها, ويؤثر تأثيرًا حاسمًا في سعادته أو شقائه –كما زعموا-. سواء كانت هذه الآراء صحيحة أو خاطئة, بنّاءة أو هدّامة.

بينما حرية الرأي في الإسلام فهي مكملة لحرية العقيدة ومتممة لها, والفرق بينها وبين سابقها, أن السابق أي العقيدة باطنية, تتعلق بالقلب والسريرة الداخلية, أما حرية الرأي فهي ظاهرة تكون بإخراج ما في الفكر واطلاع الغير عليه, بإبداء الرأي بالكلام أو الكتابة أو ماشابههما من الوسائل, وقد قررها الإسلام, بل ودعا الناس إلى إعمال عقولهم وعدم إهمالها. فإباحة الاجتهاد لمن هو قادر عليه بتوفر الشروط المقررة خير دليل عليه, وكذا ينعى الإسلام على التقليد الأعمى بحيث يجعل رأي من يقلّده من المسلّمات يجب أخذه منه, لما في ذلك من حجر على حرية الرأي. وكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أروع مثال في هذا, فالتاريخ حكى لنا ما حدث في حياته –عليه الصلاة والسلام- حين تعرّض بعض المنافقين لعرض أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- في حادثة الإفك. فكان –صلى الله عليه وسلم- لم يكن يمنع الناس من الكلام فيها مع أنه يعلم أنها تهمة باطلة على أم المؤمنين, بل كان يشاور بعض صحابته ليبدوا آراءهم فيها, ويعالج هذه المشكلة بالصبر, إلى أن نزلت الآية العاشرة من سورة النور. ومع ذلك نهى الإسلام عن حرية الرأي المنفلتة لا أساس لها ولا حجة عليها, ومنع الأخبار الكاذبة والآراء المضللة, وفي نفس الوقت سمح للآراء الصائبة البناءة المقومة لاعوجاج الدولة والرعية.

وهذا التوسط هو الحلّ في مثل هذه القضية الخطيرة, إذ الإنسان بفطرته يحب إبداء رأيه وإظهاره على غيره. فإذا ما تُرك الإنسان في إبداء الرأي بغير قيود, فسيكون الفوضى لا محالة, فكلّ يرى بعين رأسه وعقله وفكره. وعلى هذا فإعطاء الحرية في الرأي لكل من هو أهل له وقادر عليه, هو عين التوسط والاعتدال. وذلك إذا تكلّم كلّ من هبّ ودبّ في قضية هو ليس من أهلها, بطبيعته ستكون الآراء كثيرة وتتزايد بتزايد من يتكلم ويبدي رأيه عن غير علم, إذ من المعلوم بداهة إن الذين لا يعرفون أكثر بكثير من الذين يعرفون. وصدق القائل: إذا سكت من لا يعلم لسقط الخلاف.

    وكذا في الحرية الشخصية, فإن الرأسمالية تنطلق من مبدأ أن السعادة هي الغرض من الحياة, ويرون أن السعادة هي الأخذ بأكبر نصيب من المتع الجسدية, لأنها في نظرهم هي الوسيلة إلى السعادة, بل هي السعادة بعينها. وعلى هذا المنطلق السقيم يتصرف أصحاب هذا المذهب كيف يشاء وعلى نحو ما يريد, للوصول إلى السعادة المرادة, ما داموا يرون أن تصرفهم يأخذ بهم إلى السعادة المرجوة, وما دام التصرف الذي يمارسونه لا يعتدي على حريّات أحد في حدّ زعمهم. فعلى هذا يمارسون الجنسية والأفعال الشنيعة الأخرى من شرب المسكرات وتعاطي المخدرات وغيرها من غير أن يكون هنالك أي تبرير من قبل التشريع ومن غير تفكير العواقب, والنتيجة الحتمية مشهودة في حياتهم المعاصرة.

    بينما الحرية الشخصية في الإسلام لها قيودها ولها كيانها الوثيقة وثوابتها المتينة, وذلك لأن الإنسان في الإسلام له كرامته حيًّا وميّتا, وهذه الكرامة هي التي تميّز بينه وبين غيره من مخلوقات الله, تتجلّى فيما ذكره الله تعالى, حيث قال:

"















".

    قال الرازي:
واعلم أن الإنسان جوهر مركب من النفس، والبدن، فالنفس الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في العالم السفلي، وبدنه أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي. وفي تميّز الإنسان عن غيره من مخلوقات الله في الخِلقة, يقول تعالى:

"




 ".

قال ابن كثير في هذا الآية: "أي يمشي قائمًا منتصبًا على رجليه، ويأكل بيديه -وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه- وجعل له سمعًا وبصرًا وفؤادًا، يفقه بذلك كله وينتفع به، ويفرق بين الأشياء، ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدنيوية والدينية".

    وبعد هذه المزايا, أنعم الله -تعالى- للإنسان بالعقل, به يفرق بين الحسن والقبح وبين الحطب والحيّة. فلمّا كانت هذه الأوصاف تميز بها الإنسان عن غيره, واتفق عليها كلّ عاقل, فعليه أن يسير على منهج الله -تعالى- وعلى فطرته التي خلقه الله عليها, ولا ينبغي أن يخرج عنها, ولا أن يتجاوز حدودها بحيث يعيش كما يعيش الحيوان. وإذا وضع الإنسان هذه المزايا العجيبة في غير محلها واستخدهما في غير موضعها, فهو بحق مائل عن العدل وجانح إلى الظلم, حيث وضع الشيئ في غير محله. وهذا إفراط وتفريط في نفس الوقت, مائل عن الوسطية والاعتدال.

    فربْط الإسلام هذه المزايا في إطار شرعي بجعل قوانين الزواج وأحكامها الدقيقة –مثلا- هو عين التوسط في الحرية الشخصية, إذ الغريزة الإنسانية التي جبل الله -تعالى- الإنسان عليها لا بدّ من ربطها وتقييدها حتى لا تنفلت كما ينفلت الأسد من وكرها. بينما عدم ربطها بالقيود كما في الرأسمالية وغيرها هو جنوح عن التوسط والاعتدال, فالعواقب الوخيمة مشهودة لا مرية فيها ولا ريبة. وعلى هذا فإن أساس المعاملة المالية في الإسلام –كما قال الزحيلي- هو الحرية الاقتصادية المنظمة, والعدالة والمساواة وأداء الحقوق وتنفيذ الالتزامات. والأدلة عليها كثيرة, منها قوله تعالى:

"



".

ولهذا حرّم الإسلام الظلم والجور وأخذ حق الآخرين أو أكل أموالهم بالباطل, قال تعالى:

"













".

فشرط التراضي من الطرفين في التبادل يدلّل على التوسط والاعتدال, إذ عدم وجوده عن أحدهما هو أكل أموال الغير بالباطل وهو عين الظلم. فقيد التراضي يطمئن القلب, فلا أحد يظلم أحدًا, ولا يطغى أحد على غيره من حيث لايدري, قال ابن كثير في هذه الآية: "كأنه يقول: لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال، لكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال".

وهذه القيود هي التي تفرق بين الحرية الشخصية في الإسلام وبين سائر المذاهب الفكرية المعاصرة, ومن بينها الرأسمالية. وبهذه القيود أيضًا تصمد شرائعه على مرور الزمان أمام التحديات العارضة واللاحقة, وستكون هكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها, إذ هي تمثل الوسط الأعدل. والمثال البسيط في هذا هو الحرية الفردية أو الشخصية في أمر الزواج أو الطلاق. فالإسلام يعطي لكل مسلم حريته الشخصية فيهما, بشرط أن يكون على ضوابط شرعية لا على الأهواء. فإذا مال الإنسان عن القيود, فالنتيجة الحتمية هي الفوضى في الأمور الفردية والأسرية بل والاجتماعية, إذ كلّ يريد أن يفعل ما يشاء وكيف يشاء ليشبع أهوائهم الشهوانية. لنتأمل –مثلا- ما قاله الرسول –عليه الصلاة والسلام- في أمره بالزواج للقادر على المؤنة: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج". فهذا التوجيه النبوي يدلّل على أن أمر الزواج لم يكن متروكًا لكلّ أحد ليشبع شهوته, إذ الزواج يتطلب المسئولية والحقوق يجب تحققها ويحرم إهمالها. وفي نفس الوقت حذر –صلى الله عليه وسلم- من الزواج لأجل الاستمتاع فقط وإن كان من القادرين على النفقة, فقال: "تزوجوا ولا تطلّقوا فإن الله لايحب الذواقين ولا الذواقات". فهذان الحديثان ضابطان شرعيان في الأمر الذي يحتاج إليه البشرية بفطرها المفطورة عليها, ومع ذلك قيدت الشريعة أمره كي لا يمرق الإنسان فيه كما يمرق السهم من رميته.

فالإسلام لم يهمل حرية الفرد كما فعلت الشيوعية, إلا أنه لم يحعلها مطلقة كما فعلت الرأسمالية, وإنما ربطها بمصدره الحقيقي وهو الله -سبحانه وتعالى-. وكذا لم يغفل الإسلام أهمية الجماعة, كما فعلت الرأسمالية, إلا أنه لم يجعل الجماعة سيفًا مسلّطا على رقاب الناس, كما فعلت الشيوعية, وإنما أقام بابا بين الفرد والجماعة التي يعيش في وسطها, وجعل الفرد مسؤولا عن الجماعة, والجماعة مسؤولة عن الفرد, وربط الفرد والجماعة معًا بنظام أكبر, وهو هذا الكون الذي نعيش فيه, وبطبيعته يربط الجماعة برب هذا الكون, وهو الله تعالى. والمسئولية في الإسلام عنوان التكريم الإنساني. وإذا أهملها الإنسان وعطلها ولم يقم بواجباتها كما حصل في الرأسمالية وغيرها فسيولّد خللاً في المجتمع البشري.

وهكذا في الحرية الملكية الفردية أو ما يسمى بالنظام الاقتصادي الرأسمالي, كلّ يتبع هواه بما رآه حسنا. فمجمل رأي أصحاب هذا المذهب أن الفرد له حريته المطلقة على مايملكه من الأموال, كما أباح العمل والكسب من غير تفريق بين الخبيث والطيب, لا حلال ولا حرام. فأباح الربا والخداع والغش والاحتكار والكذب في تحصيل المال, مما أدى إلى حبس المال على يد فئة قليلة من الناس, بينما بقيت الجموع الهائلة من البشر يتكففون من العيش, ولا تعترف الرأسمالية بحقوق إنسانية في المال سوى ما تفرضه الدولة على الموارد التجارية من ضرائب تختلف نسبها من وقت لآخر, وتتفاوت بتفاوت رأس المال.

أما الإسلام فقد أحل الملكية الفردية وقرّرها واعترف بها, وشجع على الكسب بشرط أن يكون حلالاً, وعلى التنافس بشرط أن يكون نزيهًا, وشجع على النهوض بالصناعات, وجعل الميراث حقًّا مشروعًا للأبناء وغيرهم من الأقرباء في نظام دقيق حكيم عادل. كما أنه يقرر التفاوت في الملكية الفردية, ما دامت نزيهةً مبرأةً من شوائب الحرمة, ومالم تصبح الملكية سبيلاً للسلطان المطلق والظلم. قال تعالى:

"




".

ومما يدلّل على تقرير الإسلام بالتفاوت في الملكية الفردية, قوله جل وعلا:

"





".

قال الشوكاني في هذه الآية: "فجعلكم متفاوتين فيه، فوسع على بعض عباده حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفاً مؤلفة من بني آدم، وضيقه على بعض عباده حتى صار لا يجد القوت إلاّ بسؤال الناس والتكفف لهم، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها". وقال سبحانه:

"










".

ولهذا أضاف الله -تعالى- في بعض آي القرآن الكريم الأموال إلى مالكها, مثل قوله:

"


".

ومعنى هذا أن الثروة في الإسلام حقّ مكتسب مصون يحميه الإسلام من العدوان, ما دامت بريئة مما يحظره الدين, كالرشوة واستغلال النفوذ والسرقة وغيرها مما حرمه الله. بهذا تبين المنهج الوسط والاعتدال في الحرية الملكية في الإسلام. كما اتضح لنا أن جوهر الرأسمالية هو حرية الإنسان, وهي حرية لا تعرف القيود ولا الحدود, بل ولا تعرف الغايات, فهي حرية من أجل الحرية وحدها. بينما الحرية في الإسلام هي حرية "مسئولة", لها مكانتها ولها ضوابطها تضبطها, فالحرية في هذا ليست الحرية في ذاك كما قدّمنا. ولم يبالغ البعض حينما أطلقت الحرية في الرأسمالية هي حرية الحيوان.

والمسلم -مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة- ليس حراً في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء كما هو الحال في النظام الرأسمالي، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان. إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير. وذلك لأن الله -تعالى- شرع هذا الدين عليم بأن الإسراف مفسدة للنفس والمال بل والمجتمع، وأن التقتير حبس للمال لأفراد مخصوصين عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله. مع أن المال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية, يحتاج إليه كل فرد. كما أن الإسراف والتقتير في التضرف بالأموال يحدثان اختلالاً في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي، وأن حبسها واحتكارها يحدث أزمات, ويحدث مثله في إطلاقها بغير حساب.

وهذه الضوابط والقيود هي التي تجعل الإسلام وسطًا, إذ هي تربّي الإنسان على الاهتمام بنفسه وماله دون أن يعرض عن التوجيهات الإلهية من القرآن والسنة النبوية في التعامل مع الآخرين حتى لا يقع في الجور. و بذلك يشعر أنه لا يعيش لمجرّد اتباع الشهوة والمتع الدنيوية, وإنما أيضًا لمسؤولية سيسأل عنها يوم القيامة. إضافة إلى أن حريّة كل فرد إذا أُطلقت على هذا الصورة المطبّقة في الرأسمالية تصادمت وتصارعت مع حريّات الآخرين, بل وتصادت مع مبادئ الحقّ الذي ينبغي أن يكون أولى بالاحترام والتبجيل. فالإسلام حرّر الإنسان من كلّ عبودية لغير الله تعالى, سواء كانت عبودية للغير كما هو الحال في الشيوعية, أو عبودية للنفس والشهوات كما هو الحال في الرأسمالية. فالمال في الإسلام ليس غاية, وإنما هي مجرّد وسيلة, وهو ليس حقّا للمرء على حقيقته, وإنما المالك الأصلي هو الله تعالى وحده, فالإنسان بمنزلة وكيل.


 


 

الشيوعية

لا شك أن إحدى التيارات الفكرية المعاصرة من أكثرها شيوعًا وأبلغها في العصر الحديث هي الشيوعية, بل وبعض الدول الكبرى تتبنى هذا المذهب في سياستها وحياتها الواقعية, وإن كانت في بعض البلاد لم يكن لها أثرا يذكر, ومع ذلك بعض أفكار هذا المذهب لا زالة قائمة

العلمانية

فإن إحدى التيارات الفكرية المسيطرة في الحديث هي العلمانية, والعلمانية من حيث هي فكرة قد أثرت آثارًا سلبية حاسمة في المجتمع المسلم, نتيجة تأثر بعض المسلمين بها في تفكيرهم وسلوكهم بل وفي عقيدتهم. وقد كشف لنا العطّاس هذا التأثر الذي وصفه بالتأثر المفرط نتيجة تسرب الطرق الغربية في التفكير والاستدلال العقلي والإيمان في مجتمعنا, وذلك بتقليد بعض العلماء والمثقفين المسلمين, إذ أذهلتهم الإنجازات العلمية والتقنية الحديثة للغرب. وهذا التأثر المفرط يفضح في الحقيقة عجزهم عن الفهم الصحيح, وعن الإحاطة الدقيقة والشاملة بالرؤيتين الإسلامية والغربية للوجود, وعن إدراك المعتقدات الأساسية وأنماط التفكير المعبرة عنها. مع أن الإسلام دين الفكر, وين العقل, ودين العلم, حسبنا أن رسولنا –صلى الله عليه وسلم- لم يقدّم حجّة على رسالته إلا ماكان طريقها العقل العقل والنظر والتفكير.

    وإذا استقر حال بعض المسلمين بتأثرهم بالعلمنة وتحول تفكيرهم إلى التفكير العلماني فإن العواقب في المستقبل وخيمة للغاية, إذ هي تهدّد معالم الدين التي تميز بها المسلمون عن غيرهم بل و تهدّد عقيدتهم الحقة, إذ الفكرة العلمانية فكرة تضادّ الإسلام من أصله ولا يمكن أن تلتقي مع الإسلام أبدًا. يقول العطاس: "إن العلمنة ليست فقط رؤية غير إسلامية للوجود, بل تقف موقفًا مناهضًا للإسلام نفسه, ولذلك فإن الإسلام يرفض العلمنة ومآلاتها النهائية ما ظهر منها وما بطن. وذلك يستوجب على المسلمين رفضها وتطهير فكرهم وحياتهم من مظاهرها, إذ هي في الواقع سمّ يفتك بالعقيدة الحقة والإيمان الصحيح". وعلى هذا فمعرفة الوسطية بين الإسلام وبين العلمانية مهمة, لكي لا يقع المسلم في ما وقع فيه المسيحيون.

    فالفارق الأساسي بين الإسلام والعلمانية أن للإسلام عقيدة وقيم وأخلاق. بالعقيدة يربط الإنسان من العبودية لغير الله -تعالى- والوقوف عند حدوده, وعدم الخضوع للمادة, أيا كانت. بينما العلمانية ترفض الدين وما يتعلق به, ومن ثمّ تطلق الإنسان من القيود الإلهية. كما أن العلمانية ضد الدستور نصا وروحا, فهي كذلك ضد إرادة الشعب.

    والعلمانية ليست كما عرّفها البعض بأنها فكرة تدعو إلى فصل الدين عن الدولة فحسب, وإنما في الحقيقة مفهوم العلمانية أوسع من هذا, ولم يكن مقصورًا على فصل الدين عن الدولة, وبالتالي المفهوم الذي يقصده دعاتها هو: تحرير الإنسان من السيطرة الدينية أولا, ثم الميتافيزقية ثانيا على عقله ولغته. وعلى هذا المفهوم تمتدّ العلمانية إلى محاولة تحرير الإنسان عن قيد الدين في الجوانب السياسية والإجتماعية فحسب, ولكنها تشمل أيضا وبالضرورة الجوانب الثقافية.

وإذا قارنا بينها وبين الإسلام فإن العلمانية ولدت بسبب سلطة الكنيسة على المسيحيين. فهذه السلطة القاهرة على المجتمع المسيحي يزعج بعض أفراد المسيحيين ليقيموا ثورة عليها, وذلك بالاعتماد على العلم والمعرفة, وبدأ يروجون شعار أن الدين خرافة لاينسجم مع العلم ولا يلائمه, فعليه لا بد من الفصل بين الدين وبين الدولة ومع حرية التدين. وبناء على هذه الفكرة, فلكل واحد من الناس حريته المطلقة من دون قيود ولا ضوابط تسير عليها, وليس هنالك نظام يقيده من إبداء آراءه وتصارفته, له ما له وعليه ما عليه.

العقيدة

ففي العقيدة النقية الخالية من الشرك والوثنية مقاصد عظمى, بحيث هو الهدف الأصلي والأصيل ببعثة نبينا الكريم محمد –صلى الله عليه وسلم- كما كان الأنبياء والرسل من قبله بعثوا لهذا الغرض الجليل. فلو تتبعنا آيات القرآن الكريم التي تقصّ عن الأنبياء والمرسلين, فسنجد وحدة وظيفتهم الأساسية ووحدة دعوتهم وهي البلاغ والتبليغ عن الله الواحد الأحد الفرد الصمد, ونبذ الشرك ومظاهره من عبادة الأوثان والأصنام وغيرها من المعبودات الباطلة التي تُعبد من دون الله بغير حقّ. والعبادة لله وحده هي الغاية المحبوبة والمرضية له التي خُلق الخلق لأجلها, كما قال تعالى:

"




 ".

وقال تعالى:

"









".

وقال تعالى:

"













".

وغيرها من الآيات التي يكاد لا تعدّ ولا تحصى.

ويؤكدها رسولنا الكريم –صلى الله عليه وسلم- في قوله: "نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد", قال ابن كثير: "يعني بذلك التوحيد، الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنزله". ويقول قتادة: "والدين الذي لا يقبل الله غيره: التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل -عليهم الصلاة السلام-", وهو الأصل. فوحدة دين الأنبياء والمرسلين يراد بها وحدة دعوتهم إلى توحيد الله تعالى الخالص من شوائب الشرك والكفر, وإن كانت الشرائع التي جاءوا بها مختلفة, لما في ذلك من الحكمة البالغة والحجة الدامغة. وهذا الإختلاف يرجع إلى كون شرائع الله تعالى إنما كانت شعائر لمعدات, وأن المقادير يلاحظ في شرعها حال المكلفين وعاداتهم. وقد أشار إليه الله سبحانه في أكثر من موطن في القرآن الكريم عند ذكره بعض الأقوام ذوي القوة البدنية. وأنه يراعي تقدم العقل البشري وتطور الإنسانية. ولهذا فإن أصول الدين وشرائعه الجامعة اتفقت عليها جميع الرسل, كما في الوصايا المذكورة في سورة الأنعام, وسورة الأعراف, وسورة الإسراء, وغيرها.

ولهذا فإن أول ركن يميّز به المسلم وغير المسلم هو شهادة أن لا إله إلا الله. فهذه الشهادة العظيمة تدلّل على أن لا معبود بحقّ إلا الله تعالى. فالقطعة الأولى منها وهي كلمة (لا إله) دالة على نفي جميع المعبودات الباطلة من دون الله, والثانية تعبّر عن الإقرار بأن الله تعالى هو المعبود الوحيد بحقّ, لا شريك له في ربوبيته وفي ألوهيته وفي أسماءه وصفاته. ويفهم من ذلك أن هذه الشهادة فيها جناحان متلازمان لا يستغني أحدهما عن الآخر, وهما نفي كلّ المعبودات الباطلة وإثبات المألوه بحق وهو الله تعالى وحده, فلا ينفع النفي بدون إثبات, كما لا ينفع الإثبات بدون نفي. وذلك لأن النفي بدون الإثبات إلحاد, والإثبات بدون النفي شرك –والعياذ بالله-.

وممّا يدلّنا على عظم هذه الشهادة التوحيدية ومقاصدها الجليلة, اعتناء القرآن الكريم بها اعتناءً بليغًا الذي لا يساويه واحد من التكاليف الأخرى بل ولا يدانيه, إذ هي الفارق الفاصل والأساسي بيننا وبين غيرنا كما أخبر بذلك نبينا الكريم –صلوات الله وسلامه عليه-, والعبادات تابعة لها. وعلى هذا لم يبالغ القنوجي فيما ذهب إليه بأن في سورة الفاتحة فقط -مع قصيرتها ووجيزتها-, لا يقلّ عن ثلاثين موضعا تدلّل على إخلاص التوحيد.

فعلى هذا الأساس التوحيدي الخالص, فإن الميل عن الوسطية في هذا الباب الخطير بارتكاب الشرك أو ما يؤدّي إليه هو ظلم عظيم بل أعظم الظلم على الإطلاق, يجب التخلّص منه والتصدى له. فقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه-, لما نزل قوله تعالى:

"









".

شقّ ذلك على أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم-, وقالوا: أيّنا لم يظلم نفسه, فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ليس كما تظنون, إنما هو كما قال لقمان لابنه.{يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.

    ولهذا جعل العلماء حفظ الدين هو الأصل الأول والأعلى من رتب الضروريات الخمس, لأنه الأساس, به يكون المرء مكلّفًا بالواجبات من إقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان وغيرها. فالمحور الرئيسي والمنطلق الأساسي من دين الإسلام هو عبادة الله وحده لا شريك له.

    ومن ثمّ فالحفاظ عليه هو أعظم القربات وأجلّ حقوق الله تعالى على العباد. وهذا الحفاظ لا بدّ أن يكون من جانب الوجود ومن جانب العدم. فمن جانب الوجود يكون بالمحافظة على ما يقيم أركانه ويثبت قواعده, وذلك بالعمل به, والحكم به, والدعوة إليه, والجهاد من أجله. ومن جانب العدم يكون بدرء الاختلال الواقع أو المتوقع عليه, بردّ كلّ ما يخالف الدين من الأقوال والأفعال, وما به ينعدم أو يُحرّف من الأهواء والبدع.

والناظر إلى بعض الظواهر الموجودة في عصرنا الحاضر, من كثرة الانحرافات العقادية وانتشار البدع والأهواء يعلم يقينًا أن من أهمّ أسبابها هو الميل عن الاعتدال والوسطية, والجنوح إلى جانب الإفراط أو إلى التفريط في هذا الباب, تولّد بسببه الكثير من الانحلال والتقصير في باب العبادة, ويتولّد منه كثير من الانحرافات في مجال الإجتماعيات والسلوكيات والتفكير وغيرها, وستأتي الأمثلة عليها في موضعها.

فالوسطية في العقيدة تصون المسلم من الوقوع فيما لا ينبغي أن يقع فيه من حيث لايشعر, وتحميه من الغلوّ والإفراط كما فعلت النصارى, وهي سدّ لذريعة الوقوع في الشرك بالله تعالى واتخاذ الأنداد له -سبحانه-, وهي بحق أعظم مقاصد الشريعة على الإطلاق, إذ هي دعوة كل الأنبياء والمرسلين كما سبق ذكره من آي القرآن الكريم. يقول ابن تيمية: "استقراء الشريعة في مواردها ومصادرها دال على أن ما أفضى إلى الكفر –غالبا- محرّم, وما أفضى إليه على وجه خفي حرِّم, وما إليه في الجملة ولا حاجة تدعو إليه حرِّم". فسدّ ذرائع الشرك والكفر بالتوسط والاعتدال في هذا الباب هو مقصد من مقاصد الشريعة الجليلة.


 

الوسطية في العبادة

وإذا كان الحفاظ على الدين هو أهم مقاصد الشريعة وأعلاها, لكونه أصلا للضروريات الخمس, فإن العبادة المكلّفة على العباد جزء لا يتجزأ من الدين, بل إن أصول العبادات ذاتها راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود كالإيمان والنطق بالشهادتين وغيرهما. فإذا تعمّق الإنسان في العبادة وتعنّت, ولم يكن متوسطًا فيها, فمرّده إلى الانقطاع عنها والسآمة والملل في إقامتها لا محالة, بل وقد يجرّه إلى بغض العبادة نفسها كما أشار إليه الشاطبي في كلامه السابق ذكره. هذه من ناحية, ومن ناحية أخرى فإن التعمق والتنطع فيها يسبب الضرر والإضرار بالنفس من حيث يظن أنها خير وفضيلة, والضرر مرفوع عن العباد كما قدّمنا.

فكما أن الإسلام وشريعته تتسم بالوسطية في باب الاعتقاد, فكذلك في مجال العبادات, هي بين الغلو والجفاء، وبين الإفراط والتفريط. والشواهد على ذلك من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة كثيرة, وقد ذكرنا بعضًا منها ما لا يحتاج إلى إعادتها, ونضيف إلى هذا حديث رسولنا الكريم –صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- أنه قال:

"جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبيّ -صلى الله عليه وسلّم-, فلمّا أُخبروا كأنّهم تقالّوها فقالوا: وأين نحن من النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر, قال أحدهم أمّا أنا فإني أصلي الليل أبدًا, وقال آخر أنا أصوم الدّهر ولا أفطر, وقال آخر أنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبدًا فجاء رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- إليهم فقال أنتم الّذين قلتم كذا وَكذا, أما واللّه إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له, لكنّي أصوم وأفطر وأصلّي وأرقد وأتزوّج النّساء, فمن رغب عن سنّتي فليس منّي".

    فهذا الحديث واضح في معناه وجليّ في مرماه, وهو الحث على التوسط والاعتدال والحضّ عليهما في العبادة, كما أنه ينبئنا بأن حسن النية من امرء في مثل هذا المقام لا يجعل صنعه حسنًا في نظر الشرع, وذلك لأن العبادة التي قام بها الإنسان تنطعًا وتشددًا أمر مرفوض في الشريعة الإسلامية ومردود على صاحبها لكونها مؤدية إلى الضرر ومفضية إلى الضيق والمشقة, والشريعة بريئة منها. ولو كان هذا العمل حسنًا, لما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "فمن رغب عن سنتي فليس مني". وهذا تعريض منه –عليه الصلاة والسلام- فيما زعم به هؤلاء الثلاثة من التقرب إلى الله تعالى. وهو يدلّل أيضًا على أن التوسط في العبادة وغيرها من الأمور الدينية مقيّدة بسنته –عليه الصلاة والسلام-, وليس الأمر متروكًا لكلّ أحد, يخترع ما يشاء ويريد, أو يزيد بما يراه فضيلة وخيرًا, فهو الأسوة الحسنة والقدوة المثلى.

    كما أنه يشير أيضًا إلى أن الإنسان مهما أتى من عند نفسه بالقربات والطاعات, فلن يكون أخشى لله تعالى من الرسول –عليه الصلاة والسلام- ولن يكون أتقى لله منه, بل ولن يكون أعلم به منه, فعليه الالتزام باتباع منهجه والاقتداء بسنته وهديه, وفي منهجه وسنته –عليه الصلاة والسلام- خير ما بعده خير, ولا سيما في التوسط والاعتدال في الأمور التعبدية.

    وهذه القصة تشبه قصة عثمان بن مظعون –رضي الله عنه- في استئذانه النبي –صلى الله عليه وسلم- الاختصاء, فقال له النبي –صلى الله عليه وسلم- حينها: "ليس منا من اخصى ولا اختصى, إن اختصاء أمتي الصيام. فقال يا رسول الله: ائذن لي في السياحة. قال: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله. قال: يا رسول الله ائذن لي في الترهب. قال: إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لا انتظار الصلاة".

    يقول الشاطبي بعد أن أورد هذه الرواية وغيرها: "وهذا كله واضح في أن جميع هذه الأشياء تحريم لما هو حلال في الشرع, وإهمال لما قصد الشارع إعماله –وإن كان يقصد سلوك طريق الآخرة- لأنه نوع من الرهبانية في الإسلام".

وقد قدّمنا أن الله تعالى شرع لنا التكاليف وأوجب لنا الواجبات الملائمة للطاقة البشرية, وهي في ذاتها تدلّل على مراعاة الشريعة بالوسط, وذلك لأنه سبحانه عليم بقدرات الإنسان وطاقاتهم. فإذا مال الإنسان إلى التنطع والتكلف في العبادة بعد أن يسّر الله -تعالى- له, فإنه يحمّل على نفسه الضيق والمشقة, مع أنه يقول:

"




".

ويقول عز من قائل:

"


".

يؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه". ولهذا يقول ابن حجر: الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطّع. كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر.

فعلى هذا الأساس المتين, نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- من إحداث الأمور في الدين والبدع, لأنها زيادة على المطلوب, والزيادة على المطلوب في الدين منهي عنها ومردودة على صاحبها مهما كانت النية, فقد قال –عليه الصلاة والسلام- فيما روته عائشة –رضي الله عنها-: "من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو ردّ".

قال النووي في شرحه: وهذا الحديث قاعِدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه -صلّى اللّه عليه وسلّم- فإنّه صريح في ردّ كلّ البدع والمخترعات.

فما أكثرَ التنطع والتكلّف في العبادة المائلين عن الإعتدال والتوسط داخل من هذا الباب, وذلك لأن الإنسان بطبيعته يحب الزيادة في الخير ويبتغي المضاعفة في الأجر والثواب من الله -تعالى-. والمحدثات في الدين كثيرًا ما يراها الناس حسنًا فتعمّقوا فيها وتنطّعوا ابتغاء الأجر والثواب الجزيل. ولكن هيهات أن يصلوا إلى ما أرادوا إذا ما مالوا عن التوسط وهو اتباع السنة وجنحوا إلى الإفراط أو التفريط. فسنة النبي –صلى الله عليه وسلم- قائمة على الوسطية كما أن هذه الأمة أمة وسط, فلا خير لهذه الأمة إلا بالاتصاف بهذا المنهج العدل الوسط.

وعلى هذا, كان من أسباب التحريف في الدين هو التشدّد. وحقيقته –كما قال الدهلوي- اختيار عبادات شاقة لم يأمر بها الشارع, كدوام الصيام والقيام والتبتل وترك الزواج.

ولهذا بوّب البخاري في صحيحه من كتاب الإيماب باب "إن الدين يسر". وعلق عليه ابن حجر بقوله:
أي دين الإسلام ذو يسر، أو سمّى الدّين يسرًا مبالغة بالنّسبة إلى الأديان قبله؛ لأنّ اللّه رفع عن هذه الأمّة الإصر الذي كان على من قبلهم. فيسر الدين وسهولته لا يمكن أن يكون إلا بالتوسط في الأمور, ولا يتحقق إلا بالميل عن الإفراط والتفريط.

يؤيد هذا ما أورده في هذا الباب, وهو قوله -عليه الصلاة والسلام-: "إن الدين يسر, ولم يشاد الدين أحد إلا غلبه, فسدّدوا وقاربوا, وأبشروا, واستعينوا بالغدوة والروحة وشيئ من الدلجة".

قال ابن حجر في قوله –صلى الله عليه وسلم- "ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه":
"والمعنى لا يتعمّق أحد في الأعمال الدّينيّة ويترك الرّفق إلّا عجز وانقطع فيغلب". وفي قوله "فسددوا" قال: أي الزموا السّداد وهو الصّواب من غير إفراط ولا تفريط.

وجاء في زيادة هذا الحديث عند بعض الروايات, قوله –عليه الصلاة والسلام-:
"القصدَ القصدَ تبلغوا". قال ابن حجر: والقصد الأخذ بالأمر الأوسط. ولهذا كان هذا الحديث علمًا من أعلام نبوة نبينا –صلى الله عليه وسلم-.

قال ابن المنير كما نقله ابن حجر:
"في هذا الحديث علم من أعلام النّبوّة، فقد رأينا ورأى النّاس قبلنا أنّ كلّ متنطّع في الدّين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة, فإنّه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدّي إلى الملال، أو المبالغة في التّطوّع المفضي إلى ترك الأفضل".

هذا هو عين مقاصد الشريعة الإسلامية في وسطيتها في العبادة, فالتوسط والاعتدال في العبادة تضمن الحياة المستقرة, وتحصن الإنسان من الضرر والإضرار بالنفس, وتربّيه على منهج النبوة, وتثبّته على دينه والقيام بواجباته من غير سآمة ولا ملل, وتبعده عن اتهام الدين بما هو منه بريئ. وكم من الناس يتّهم الدين ويشكّ في تعاليمه بحجة أن واجباته شاقة عليه وأنها تعنته وتضيّقه في ممارسة الحياة. وليس هناك سبب جوهري إلا لجهله بمقاصد الوسطية ومراميها.


 

في المعاملة

وفي مجال المعاملة والاحتكاك بين الفرد وغيره تبينت الوسطية في الحث على الاحترام بالاختصاص, حيث قرّر على الإنسان أن يحترم اختصاص أحد ولا يجاوزه, وأرشدنا بسؤال أهل الاختصاص في تخصصاتهم, لأن التجاوز فيه قد يجرّ إلى الفوضى في المحيط الفردي والإجتماعي, يقول الله جلّ علا:

"






".

ويقول نبينا الكريم –عليه الصلاة والسلام-: "إذا وسّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة". وصدق القائل: من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب.

وكذا فإن الإسلام جعل التقوى معيارًا لكرم أحد عند الله تعالى, ولم يكن جاهًا أو منصباً أو مالاً أو غيرها من الأمور الدنيوية كما هو مشهود في المذاهب المعاصرة التي سادت في عصرنا الحاضر, لأن كلّ هذه يمكن الحصول عليه بطرق غير شرعية. بخلاف التقوى, فلا يصل إليه المرء إلا بإقامة شرائع الله من عبادة ومعاملة حسنة بالآخرين, والاتصاف بالصدق والأمانة والعدل وغيرها من الصفات المحمودة. والاجتناب من كل ما نهى الله تعالى عنه من الشرك وعقوق الوالدين, ومن كذب وغش وجور وغيرها من الأمور المذمومة. قال تعالى:

"



".

وقد سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي الناس أكرم؟ قال: "أكرمهم عند الله أتقاهم". وفي مسلم عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أيضا قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".

فأساس التقوى يدلّ على التوسط والاعتدال, إذ كلّ مسلم سواء أمام الله تعالى, سواسية كأسنان المشط, لا فضل لعربي على عجمي, ولا الأبيض على الأسود.

وفي التعامل المالي, يتجلّى ذلك في مدح الله تعالى القائمين بالتوسط في الإنفاق في كتابه الكريم بقوله:

"









".

قال ابن كثير: أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عَدْلا خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا. وكذا قوله تعالى:

"











".

وفي هذه الآية أمر من الله تعالى بالاقتصاد في العيش وذمّ للبخل ونهي عن السّرف. فإمساك المال حيث يجب البذل بخل, والبذل حيث يجب الإمساك تبذير, وبينهما وسط محمود, وهو الجود والسخاء والكرم, لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يؤمر إلا به. فالجود وسط بين الإسراف والإقتار, وبين البسط والقبض. و جاء في المثل العربي: من أنفق ولم يحسب, هلك ولم يدر. فالتصرّف في الأموال على وجهه النافع للمتصرّف له أهميته في الإسلام, لما فيه سبب لحياة الإنسان واطمئنانهم. فهذا الإرشاد البديع يدلّل على اعتناء الإسلام وشريعته بالتوسط في الإنفاق, وهذا ما قرّره الإقتصاديون, وإن كنا لا نحتاج إلى إقرارهم.

وهذا لا يعني أن الإسلام ينفي التفاوت في الثراء, فهو أمر مستحيل خارج عن القدرة الإنسانية, لأن الناس متفاوتون في التفكير والصحة والقوة وفي كثير من أمور الحياة, وبالتالي يتفاوتون في المكاسب والأرزاق. لكن التوازن والاعتدال فيه مطلوب كي لا يظلم أحد أحدًا, ولا يبغي أحد على أحد. وكم كناّ نسمع الظلم وقع من أحد على أحد بسبب المال, بل قد يفضي إلى سفك الدماء والقتال.

ووصل اهتمام الإسلام بالتوسط والاعتدال في مجال المعاملات المالية أن أمرنا الله تعالى بالتوسط في الطعام والشراب, وذلك لأن المبالغة فيهما بما فوق الحاجة يسبب كثيراً من الأمراض الجسمية, كما أن المبالغة في الإقلال عنهما مع القدرة عليه تلحق بصاحبها الضعف والهلاك, ومن جانب آخر هو مبالغة في التصرف بالمال, لأنه تجاوز على الحاجة, والمطلوب أن يكون المرء منفقًا ماله على قدر حاجته, حتى لا يتعرّض لفقدان المعيشة في الوقت اللاحق. قال تعالى:

"






".

وصدق ابن الوردي إذ يقول:

بين تبذير وبخل رتبة        وكلا هذين إن زاد قتلْ

وفي مجال الإقتصاد العام اهتم الإسلام بمصلحة الفرد والمجتمع, فأقرّ ملكية الفرد وضبط لها ضوابط حماية لمصلحة المجتمع وحصنًا لحقوقهم, فحرّم الربا والغش والاحتكار, والتدليس والغبن وغيرها من مفسدات العقود, وجعل أساس المعاملات على التعادل في التبادل دون تقصير أو إهمال أو إكراه, ومهّد السبل للاكتساب المشروع وصدع الطرق الموصلة إلى الاكتساب غير المشروع, وأوجب على الأثرياء من المسلمين إخراج الزكاة وأداءها, وجعلها حقّا للفقراء والمساكين عليهم, وحرّض على النفقة والصدقة, وحث على مساعدة المحتاجين, فلا يُسلب حقُّ أحد, ولا يهمل حق أحد, وهو النظام القائم على التوازن والاعتدال. وكلّ هذه السمات التي تميز بها الإسلام عن غيره في المعاملات فيه حماية للمجتمع من التنازع والاختلاف, لأن الاختلاف أو التنازع فيها يؤدي إلى الوهن والضعف في الأمة وزرع الأحقاد بين الناس, بل وهزّ الثقة بين المتعاملين خاصة والمجتمع كافة, وهذا هو عين مقاصد الشريعة في هذا الباب.

فإذا طبق الإنسان هذا التربية القرآنية في معاملاتهم, وخاصة في عصرنا الحاضر, لما كان الحال مثل ما يعاني به أكثر الناس في هذه الأيام من البطالة وفقدان العمل وغيرهما, إذ هذا المعلم الجليل وهو الاعتدال في الاقتصاد له أثره الإيجابي الواقعي فيمن قاموا به من الأفراد أو الجماعات بل والدول. فمقاصد الوسطية في هذا الباب ظاهرة جلية لكلّ منصف.

الوسطية في الأخلاق

أمّا في الأخلاق فوسطية الإسلام لا يدانيها أي تشريعات أرضية, فهي تتمثّل في كثير من جوانب الحياة, أعظمها في التعامل مع الوالدين, حيث جعل حقهما بعد حقّ الله تعالى ورسوله –صلى الله عليه وسلم-, وحرّم العقوق عليهما وجعلها من كبائر الذنوب, وأوجب على المرء احترامهما وطاعتهما في معروف, وأمر بالإحسان إليهما ومصاحبتهما بالمعروف, بل والدعاء لهما بالرحمة. والأدلة عليه من النصوص الشرعية متوفّرة. منها قوله -تعالى- الجامع:

"























 * 










".

    وفي حديث أبي بكرة –رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ, قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ..

    

وفي الجانب السلوكي التطبيقي في المعاملات بين الناس، عماده أيضا الوسطية والاعتدال في البذل والإنفاق، وفي القضاء والاقتضاء، وفي البيوع، وفي التقاضي وفي سائر الأمور، لهذا المعنى كانت الأمة الخاتمة خير الأمم لوسطيتها قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة : 143]

وتتجلى وسطية الإسلام حيث حرم الخبائث، وأباح الطيبات، فليس كلّ الأطعمة يحلّ أكلها ولا جميع الأطعمة يحرم تناولها, يقول الله تعالى:

"




".

وقال تعالى:

"















 * 










".

يقول الشاطبي: "روي في سبب نزول هذه الآية أخبار جملتها تدور على معنى واحد, وهو تحريم ما أحلّ الله من الطيبات تديّنا أو شبه التدين والله نهى عن ذلك وجعله اعتداء, والله لا يحب المعتدين".

ومما أورده من أسباب نزول هذه الآية, قوله –عليه الصلاة والسلام- في أناس أرادوا أن يرفضوا الدنيا ويتركوا النساء وترهبوا: "إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد, شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم, فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع, اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا, وحجوا واعتمروا, واستقيموا يستقم لكم".

وما أكثر مثل هذه الأمور وقعت بسبب الميل عن الوسطية, والجنوح إلى الإفراط كما أشارت إليه بعض هذه الروايات وغيرها. وعلى هذا جعل الإمام مالك ترك الحلال معصية, لأن الله -تعالى- يقول (ولا تعتدوا). والاعتداء كما قال الطبري هو تجاوز المرءِ ماله إلى ما ليس له في كل شيء.

وفي مجال علاج قضايا الأسرة وطرق الإصلاح والقضاء على الخصام، يتمثل في الوعظ والهجر في الكلام وفي المضجع وفي التأديب اليسير وفي التحكيم، فإذا استقامت الأحوال والأمور بعد هذه, وجب الإمساك بالمعروف وصار الطلاق محظوراً، قال تعالى:

"

















.

وتتمثل الوسطية في الموازنة الدقيقة بين حقوق الله وحقوق العباد، موازنة بين التكليف وبين الاستطاعة، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والمشقة تجلب التيسير، والضرورات تبيح المحظورات.


 

في التفكير:

لقد وضع الخالق تعالى الميزان لهذا الكون، ما نعلمه منه وما نجهل، لتنظيم الحياة وفق نظام رباني يجمع بين الانسجام والتناغم وبين الاعتدال والتوازن، وهو ما يؤكد أن الوسطية أصل النظام الكوني، وأنها عنصر من عناصر الخلق. وكما ينطبق هذا النظام الرباني على الحياة والكون، ينطبق أيضاً على الإنسان بدرجة أولى، بحيث إن المنهج الذي يصلح للإنسان هو المنهج الوَسَطي، وهو ما جاءت به الرسالة الإسلامية الخاتمة التي اشتملت على القواعد والأصول وكليات الأحكام.

فالوسطية هي المنهج الرباني، والنظام الكوني الإلهي، وسنة اللَّه في خلقه، وهي تنسجم مع الفطرة الإنسانية، ولذلك فالخير كلُّه في الوسطية التي جاء بها الإسلام للأمة الإسلامية وللإنسانية جمعاء، في كل زمان ومكان. وقد بلغت الوسطية الإسلامية وتبلغ هذا المقام في حضارتنا، لأنها بنفيها الغلو الظالم والتطرف الباطل، إنما تمثل الفطرة الإنسانية الطبيعية في براءتها، وفي بساطتها، وبداهتها، وعمقها، وصدق تعبيرها عن فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها، لا سيما في التفكير.

ولا ريب أن التفكير أمر مطلوب في الشريعة الإسلامية, بل مأمور به, لأن طبيعة الإنسان أن يفكر ويتفهّم ما في أيديهم من الأمور, والله تعالى عليم بما في الإنسان من الميول والإرادة, لأنه خالقهم ومصوّرهم, يعلم قدراتهم وطاقاتهم البشرية, وبالعكس إهمال العقل من التفكير والتفكر مردود ومرفوض, إذ هو دلالة على التقصير والتفريط في شكر نعمة العقل التي ميز الله به الإنسان عن غيره من مخلوقاته. وعلى هذا لا يطلب من الإنسان إلا ما يطيق ولا يكلّفهم إلا بما يسعهم, لا سيما في مجال التفكير. ولهذا كان التفكير المطلوب في الإسلام هو التفكير الذي يمكن أن يكون سببا في ارتقاء قوة الروح ويقوّي الإيمان ويزداد به العمل الصالح وهو التفكير للعبادة. فأمر الله تعالى بالتدبر في آلاءه الكونية وبالتروّي في آياته الباهرة ونعمه في السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم وسائر مخلوقاته. وفي المقابل نهى الله -تعالى- عن التفكير في ذاته على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذاته". وهو معنى قول الشاعر:

إذا المرء كانت له فكْرَةٌ ففي كل شيء له عبرَة

وكذا قول عمر بن عبد العزيز: الكلام بذكر الله -عز وجل- حَسَن، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة.

وقد ذمّ الله تعالى مَنْ لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته، فقال:

"









 * 





".

ومدح عباده المؤمنين الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض فقال:

"










".

فهذا عين التوسط والاعتدال في التفكير, حدّده الإسلام لكي يكون الإنسان على منهج سوي فيه, لا أن يميل إلى الإفراط ولا أن يجنح إلى التفريط. فعدم التفكير والتفكر الصحيح وفي مجاله الصحيح هو من سمات المشركين. وبالعكس التفكر والتفكير في محله هو من سمات المؤمنين الصادقين. فكم من آيات قرآنية تحرّض على التفكر والتفكير, تصريحا وتلميحًا.

    فالإنسان إذا حاول أن يتفكّر في خلق الله تعالى بصدق, سيزداد بذلك إيمانه ويرسخ به اعتقاده, ولا يمكن أن يكون مستكبرًا ومتكبّرا أمام الخلق, لأنه يعرف قدره ويعلم أن ربه أعلى أكبر. وفي المقابل إذا حاول الإنسان أن يتفكرّ في ذاته –سبحانه وتعالى- ويتعمق فيه فلن يصل إلى نتيجة, وقد يجره إلى الاحلال الفكري والعقدي, بل إلى الكفر والإلحاد, والتاريخ سطر لنا الكثير من طراز هذا الصنف من الناس قديمًا, والواقع المعاصر ينبئنا كذلك حديثًا. وذلك لأن العقل لا يمكن أن يدرك كل شيئ, وخاصة ما وراء الحواس, ونقيس على هذا سائر الأمور الغيبية التي تقتصر معرفتها بالنقل. لله در القائل:

وللعقول قوىً تستنّ دون مدىً         إن تعدُها ظهرت فيها اضطرابات

فهذا المنهج الرباني الذي أرساه الإسلام في التفكير هو عين التوسط والاعتدال, ذلك لأن الشريعة اليهودية كان فيها طابع مادي، والشريعة النصرانية فيها طابع روحي، وجاء الإسلام وسطاً يأخذ من جانب المادة ويأخذ من جانب الروح ويوازن بينهما، ومن هنا كانت هذه الوسطية التي ضاعفت علاقة الدين بالدنيا، والدنيا بالآخرة والروح بالمادة، والذات بالموضوع، فصاغ هذه المنظومة الإسلامية التي هي الوسطية، فيفهم من الوسطية أن الإسلام جمع بين الحسنيين، لأنه ليس شريعة روحية يقيمها الإنسان منعزلاً عن الدنيا مثل الرهبنة فالراهب النصراني يستطيع أن يقيم المسيحية بعيداً عن العالم، بلا دولة وبلا مجتمع وبلا مدينة وبلا حضارة بينما الإسلام دين الجماعة لا يقام ولا يكتمل إلا في أمة ووطن فيه حضارة وفيه مدنية وفيه مجتمع، لذلك نجد في الإسلام تفرداً بأنه يجمع بين التكاليف الفردية التي يخاطب بها الفرد وتجب عليه، ويجمع التكاليف الجماعية أيضاً التي توجه الخطاب فيها إلى الأمة، ولا تقام إلا بوساطة الأمة، والتكاليف الفرضية مثل الصلاة فالأصل فيها أن تقام جماعة ويضاعف أجرها عندما تكون في جماعة, وشرع صلاة الجمعة فريضة لتكون مؤتمرًا أسبوعيّا للأمة بالجماعة.